|
هذا ما فعله التقسيم
فينوس فائق إلى صوت الشاعرة الكوردية الأصيلة خلات أحمد الذي جائني عبر الهاتف كصوت شلال من شلالات كوردستان الجميلة في غزارته و عنفوانه ، و تنهيدتها التي وصلتني كتنهيدة طفلة كوردية تلعب بين أحياء مدينة قامشلي أو عامودا أو السليمانية أو مهاباد أو سنندج أو دياربكر و دوبايزيد و جزيرة ، و ضحكتها الرنانة التي دخلت أعماقي كضحكة إمرأة كوردية شجاعة كانت تسير وراء زوجها البيشمركة بين جبال كوردستان و هما يحملان البندقية على كتفيهما و يتربصان بالعدو الذي قسم الأرض ، و هذا ما فعله التقسيم بنا صديقتي .. لكم إعترتني الغبطة و أنا أسمع صوتك لأول مرة ، و أنا أحظى بمكالمة منك ، أنت الشاعرة الآتية مثلي من تخوم القهر و أزقة الوجع و مدن الخوف و شوارع الرعب..و لكم تمنيت لو أنكي لم تكلميني لأنني لم أتمكن من أن أرد عليك بلهجتك الشرقية ولا أن تحدثيني بلهجتي الجنوبية ، حال التقسيم بيننا و لجأنا إلى العربية للنتعرف أنا و إياكي.. هذا ما فعله التقسيم بنا أكثر ما يوجعني حين أضطر للتحدث إلى كوردي من أي جزء من أجزاء كوردستان الكبرى بلغة أخرى غير الكوردية مثل ناشطة سياسية من جنوب كوردستان إلتقيت بها في هولندا ، و كنا نتحدث باللغة الهولندية ، لدرجة أن من كان يسمعنا لم يكن ليتعرف على أصلنا و قوميتنا و لغتنا ، و السبب لأنها كانت تجهل التحدث باللغة الكوردية ، كانت تتحدث التركية و الهولندية ، لأنه لم يكن لها الحق في أن تدرس إلا بالتركية في مراحل طفولتها في تركيا.. اليوم تعمق إحساس الألم عندي عندما كلمتني الشاعرة المرهفة الرقيقة خلات أحمد عبر الهاتف و لم نتمكن من التحدث طويلاً بالكوردية ، ليس لأنها لا تتحدث الكوردية ، بل هي تغرد بالكوردية و تكتب بها أجمل أشعارها ، لكن بالكوردية الكرمانجية ، أي لهجة شمال و غرب كوردستان ، الجزئين الملحقين بالدولتين التركية و السورية ، و أنا أتكلم اللهجة السورانية ، لهجة أهل جنوب و شرق كوردستان ، الجزئين الملحقين بالدولتين العراقية و الإيرانية.. كم كان ألمي عميقاً و نحن نحدث بعضنا البعض لأول مرة باللغة العربية ، قالت لي عندما حاولت جهدي أن أكلمها باللهجة الكرمانجية: عندما تتحدثين بالكرمانجية أتخيل إمرأة أجنبية و قد تعلمت توها اللغة الكوردية ، كم شعرت بالنقص لأني لم أتمكن من مواصلة الحديث بلهجتها الكرمانجية الشمالية الجميلة و لم تكمل هي الحديث معي بلهجتي الجنوبية السورانية.. هذا ما فعله التقسيم اللعين بنا و هذه هي نتيجة سياسات الحكومات التي إحتلت كوردستان الكبرى منذ مئات السنين. فقد قسموا كوردستان بشكل منهجي و مدروس و مخطط له جغرافياً و ثقافياً و تأريخياً و حضارياً و إجتماعياً و سياسياً ، و زرعوا الإنقسام في عواطفنا و أحاسيسنا أيضاً ، إلى جانب تقسيم ثقافتنا و إرثنا الحضاري و أدبنا و فننا.. حين تنتقل من دولة إلى دولة أخرى في عموم الوطن العربي لا تواجهك أية مشكلة من هذا النوع لأن هناك لغة عربية فصحى موحدة بإمكان كل عربي أن يستخدمها أينما تنقل بين البلدان العربية ، ذلك لأن الأرض العربية واحدة ، لكن هذه الحالة للأسف لا تنطبق على كوردستان الكبرى لأنها تعرضت منذ القدم إلى أبشع أنواع التقسيم و التفتيت و التشويه الثقافي ، مما ترك آثاره السلبية على متانة العلاقات و التواصل الحضاري بين ابناء الشعب الواحد ، و عزلهم عن بعضهم البعض الأمر الذي تسبب في التباعد بين أجزاء كوردستان الأربعة ، فغالبية أهل شمال كوردستان يتعذر عليهم التفاهم مع أهل الجنوب بسبب عدم وجود أو إنعدام التواصل بين المنطقتين و بالتالي عدم التعرف على لهجة المنطقة ، و كذلك الحال بالنسبة لأهل الشرق و الغرب ، و هم في الأساس أبناء بلد واحد ، هذا بسبب سياسة تمزيق الأرض و إبعاد أهلها عن بعضهم البعض بمخطط شيطاني الهدف منه إبعاد و تشريد أهل كوردستان و الأنكى من ذلك هو ترحيلهم من مناطقهم الكوردية الحقيقية و إبعادهم قدر الإمكان و توطينهم في مناطق غير كوردية و تجريدهم من هويتهم الكوردية بهدف القضاء على هوية كوردستان الكبرى و عزلهم بكل السبل عن بعضهم البعض و سد منافذ التواصل و الإتصال فيما بينهم و تجريم كل من يحاول التنقل بين أجزاء كوردستان الأربعة ، و أكثر من ذلك جلب غير الكورد إلى المناطق الكوردية و فرضهم على الأرض الكوردية بهدف تشويه المعالم القومية و الديموغرافية لتلك المناطق ، هذه الخطة إتفقت عليها الدول التي تقسم كوردستان فيما بينها منذ زمن طويل ، فالحكومات التي تقسم فيما بينها أرض كوردستان حتى و إن لم تتفق في أي من القضايا السياسية و المصيرية التي تخص شعوبها في المنطقة ، إلا أنهم يتفقون في مسألة واحدة و هي كيفية إبقاء أرض كوردستان مقسمة و إضعافها بشتى الوسائل و الأدوات .. كل هذا مر بتفكيري عندما كلمت صديقتي الشاعرة خلات أحمد بالهاتف لأول مرة.. فهذا ما فعله التقسيم بنا..
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |