هل الديمقراطية الوليدة تكفي للقضاء على الفساد ؟
بدأ موضوع الفساد يأخذ مساحة واسعة ويمتد
أفقيا وعموديا في عراق اليوم . مما يبدد كل جهد حقيقي ومخلص للأصلاح والتنمية .
لتتحول نظرة المواطن بسبب توفره على الحرية , وان بقت هذه في الكثير من المواقع
مجرد حرية الكلام, الى أن الفساد ليست قضية ثانوية , وانما مؤسسة عملاقة
ومتمكنة و"عبقرية" تستطيع أن تستوعب الديمقراطية وتتكيف مع التقدم ومع التخلف ,
وفي كل الظروف وكل التقلبات . لأنها نسجت خيوطها على قاعدة تحالف المصالح لبعض
النخب المتنفذة . على حساب الفئات المحرومة التي تشكل المجتمع العراقي . وقد
تكلمنا على أنواع منها كالفساد المالي والسياسي والأعلامي . ولمرات متعددة .
هنا نتكلم عن الفساد الوظيفي المتمثل بالعمولات المباشرة وغير المباشرة ودفع
الرشاوي والحصول على مواقع متقدمة للأقارب والأصهار في القطاع العام , وكذلك في
فساد الأيفادات والبعثات وغيرها . مما يهدد الديمقراطية في محتواها لتتحول الى
محاصصة في كل شي , فتشبه حينها كالزينة الضارة ,لا النافعة , تستخدم من قبل
الكثير من المواقع السياسية والأتجاهات السياسية . لتصل اعداد حالاتها المرصودة
الى آلاف القضايا , كما أشارت لجنة النزاهة . دون ان تتوفر اللجنة على آلية
تفعيل ما هو مرصودلجهة المحاسبة القضائية والعقوبة المترتبة عليها .
ثم نذكر ما هو أكبر من هذا كصفقات المقاولات الكبرى والتوكيلات التجارية
للشركات الأجنبية وبأثمان بخسة وربما مستقبلا تصل الحالة الى مديات كارثية ,
تتمثل في رهن النفط العراقي لحساب الشركات الأميركية , لنصل الى خسائر ضخمة
قدرت في بعض الدراسات بمئات مليارات الدولارات . وهنا يتزاوج لا شرعيا الفساد
السياسي مع الفساد الوظيفي والوظائف البيروقراطية العليا لتتحول الى أدوات
للأثراء الشخصي الهائل . عندها يظهر خطأ النظرة بأن الديمقراطية الوليدة ستكون
حلا لكل شئ .
لسبب بسيط وهو أن الديمقراطية آلية حكم تعتمد نتائجها ومخرجاتها على نوعية
المدخلات أيضا من قرارات جيدة , تكون مستقلة عن تشابك المصالح , كي لاتتكر صورة
رؤية منحرفين كما هو الآن كانوا قد أبتعدوا عن العراق في الفترة السابقة وانزوا
عن الأنظار لما تصاعدت في ممارساتهم من أدخنة الفساد والنهب الواسع , ليظهر من
يظهر منهم لا حقا نتيجة التوازنات السياسية المنحرفة التي يجيد ممارستها
بعضالمشوهين.
ولنأتي الى موضوع الفساد الوظيفي أو الفرهود الوظيفي , بأستيلاء وزير على
الوزارة، ومدير على المنشأة أو المديرية، وجعل كل المفاصل القياديةفيها بلون
حزبي أوطائفي أو قومي واحد، وهذا أمر في منتهى الخطورة لأسباب متعددة منها :
أن هذه التشكيلات هي هياكل مؤسساتية وهي ثابتة بثبوت الدولة، بمعنى عدم تأثرها
بشكل ملحوظ بتغير النظام السياسي الناتج عن عملية تداول السلطة، ومن هنا جاء
مصطلح، دولة المؤسسات، المتعارف عليه في الديمقراطيات التي تبنى على ثلاثة
أركان، الدولة بمؤسساتها والمنظومة السياسية بأحزابها وتمثيلاتها البرلمانية
وأخيرا مؤسسات المجتمع المدني.
كذلك فأن التغيير في الهياكل الوظيفية الناتج عن هذه الظاهره تعزز من فرصة تسلل
أفراد الى تلك المراكز يكون العامل الأيديولوجي عندهم اكثر وضوحا وقوة من معيار
الكفاءة والخبرة والتحصيل، مديريات ومحطات توليد وتوزيع الكهرباء "كمثال مجرد"
بحاجة الى تكنوقراط متميزين في هذا المجال لا الى فنيين من هذا الأتجاه أو ذاك
بكفاءة أقل،ويمكن أستصحاب الأمر على الكثير من الوزارات.
في الوزارات ذات الهيكلية المؤدلجة قد تكون
عمليات المراجعة النقدية وما ينتج عنها من تقييم ومسائلة أكثر صعوبة بسبب أخذ
المصلحة الحزبية بنظر الأعتبار التي قد تتعرض سلبا عند مكاشفة أحد اعضائها
وعرضه أمام مرآة الشفافية من قبل الآخرين.
كل ماتقدم من الشرح لا يشير الى القفز على الأستحقاق الأنتخابي وانما من حق
الفائزين بثقة الشعب ان يختاروا وزراء من أحزابهم وتنظيماتهم، وهذا حاصل في كل
الدول الديمقراطية المتطورة حيث تخضع الوزارات والبلديات للأستحقاقات
الأنتخابية الحزبية، لكن الوزير الجديد لا يصبغ وزارته بلونه الحزبي أو
المناطقي أو القومي، ولا يغير من الهيكلية المؤسساتية للوزارة بشكل كبير،لأن
هذه الهيكلية تحوي في مضمونها على نتاج خبرة تراكمية هي من حق الشعب والدولة .
بالمقابل على الأحزاب العراقية الفاعلة ذات الأمتدادات الجماهيرية ان تحاسب
المقصرين من بين أعضائها، وان ذلك سيزيد من ثقة الناس بها، عندها يصل الجميع
الىحقيقة، وهي ان فكر شخص معين وسلوكه لا يتطابق بالضرورة وبالمطلق مع مبادئ
حزبه، فالمسألة نسبية في درجة التقارب والتباعد، وكم من مخلص لحزب ما أبعد
لأسباب ضيقة، وفي المقابل كم من متملق تسلق واحاط نفسه لمصلحة ذاتية بهذا
القيادي أو ذلك الذي يمتلك صفة النزاهة بدرجة عالية.
و لذلك ان الفكرة المحمولة من شخص ما وما ينتح عنها من سلوك ما لا تمثل
بالضرورة الحالة الحزبية التي ينتمي لها، وأزيد ربما بعضها لا تمثل جوهره
الشخصي أو التكويني، فمن الممكن ان تكون أستجابات لظروف آنية، بجانب البعد
التكويني المتمثل بالموروث من الصفاتوالأفكار.
هذا يشجعنا ان نتقبل أخطائنا عندما تشخص من الآخرين، والأفضل يكون هؤلاء
الآخرون من المقربين حزبيا أو عقائديا. دون ان نغضب أو نتعصب، لأن الغضب
والتعصب يقودان بنا الى الأنغلاق ويبعدانا عن العقلانية التي هي من ضرورات
العدالة.
وكلنا على علم بعدم أستطاعة البرلمان الماضي رفع الحصانة عن أحد أعضائه كي يقدم
الى القضاء بتهمة أختلاس أموال طائلة مراعاة لتوازنات منحرفة . يكشف الأمام
علي(ع) بفطنته الربانية عن سر متجذر في الأنسان ونابع من تركيبته المعقدة .
فكلنا يعلم بأن الأفراد الذين يتولون الأمور يكثر ويزداد عدد الأصدقاء لهم ,
ومن هؤلاء من يتمتع ظاهريا بالأخلاق الحسنة .
ولذلك يوصي أمير المؤمنين (ع) مالكا بعدم الأستغراق في عامل المعرفة الشخصية ,
لأختيار الكادر الذي معه . بل رعاية :
حسب ماجاء في كلماته (ع) «ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى
فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ ، فَإِنَّ الرِّجَالَ
يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ
، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالأَمَانَةِ شَيْءٌ . وَ لَكِنِ
اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ ، فَاعْمِدْ
لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالأَمَانَةِ
وَجْهاً ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ
أَمْرَهُ» .
ونذهب أبعد الى أخيه عقيل عندم طالب بشئ من بيت المال في القصة المشهورة فكان
جوابه قال: (واللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى
اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً ورَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ
غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ
بِالْعِظْلِمِ وعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً
فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وأَتَّبِعُ
قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ
أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ
مِنْ أَلَمِهَا وكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ
ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا
إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا
جَبَّارُهَالِغَضَبِهِ أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولا أَئِنُّمِنْ لَظَى).
الأمام (ع) يجعل نفسه قدوة لمريديه , كي لا يغمض أي مسؤول عينيه من كثير من
مواقع الفساد , بل ربما يباركها ويزيدها في أحيان كثيرة . وما فضائح بعض
الوزراء في الحكومة السابقة "غير المنتخبة " الا دليلا على ذلك .
وأخيرا أود أن أبين أن المسؤولية العظمى في مكافحة حالات الفساد المختلفة تقع
على كاهل المجتمع لأنه صاحب المصلحة الحقيقية في ذلك ويصلح أن يشكل سلطة رقابية
تتكون من المتخصصين في مؤسسات المجتمع المدني , وربما من الأفضل أن تمون من
الدولة لا الحكومة , لتعمل بوسائلها الخاصة , والمبتكرة, وبمساعدة الأعلام الحر
وأعلام الدولة كذلك , على جمع ونشر التفاصيل المتعلقة بالفساد وأدواته , وفي
وقتها وبالتنسيق مع كل الجهات ذات العلاقة .
العودة الى الصفحة الرئيسية