لم تقم الدانمارك باحتلال العراق، ولا تشريد سكان فلسطين، ولا ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، أو إنزال عناقيد الغضب على الأطفال في جنوب لبنان، ولم يقم مواطنوها بتفجير أنفسهم وسط جموع المصلين والمشاة وعابري السبيل، أو نطح الأبراج بطائرات الركاب، لا بل لقد آوت الكثير من الهاربين من سعير الفواحش السياسية والطغيان، وكانت مشتقات الأجبان والألبان الدانمركية سببا في تورم أوداج، وانتفاخ كروش، وتكور مؤخرات أصحاب المعالي، وعموم أصحاب التعاسة الواقعين تحت وصاية ورحمة بائعي الشعارات، الخالية من أي دسم، وزفر، وفائدة على الإطلاق.
ولذا لا يرى المرء سببا مقنعاً، وموجباً لاتهام الدانمارك كحكومة، وشعب، ونظام وتحميلها أية مسؤولية، وأوزار عن قيام مواطن نكرة ما، ولا صفة رسمية له، بالإساءة إلى الرسول الأعظم (ص)، طالما أنها تبرأت من رسوم مواطنها، وهي لم تتبن موقفه على الإطلاق. وإذا اتفقنا مع أصحاب الهبّة المضرية، وقبضايات الإعلام، وإذا كان المنطق يفرض نفسه، بأن على الدانمرك أن تعتذر عما قام به هذا الفنان المغمور، والذي جعلته المعالجة الغوغائية والعنتريات الفضائية، والدعم الرسمي، مع رسومه، بين طرفة عين وانتباهتها، أشهر من نار على علم، وساهمت في ما يمكن تسميته بـ"تعويم المقدسات"، وهذا الجانب هو الأخطر في الموضوع على جميع المقدسات، سيكولوجيا على الأقل، فإن ما يتوجب على الدول والأنظمة التي سمّنت وربت ابن لادن، والزرقاوي، وأبو مصعب السوري، والليبي، والصومالي، والأفغاني، والموريتاني، والظواهري، وما هو مطلوب منها أكثر من مجرد اعتذار بالتأكيد، وللبشرية جمعاء، في هذه الحال، نظرا لتشويه المقدسات والإساءة لها، وللأضرار المادية، والمعنوية الكبرى التي تركوها ليس على الأجانب فقط ، بل على المسلمين في كل مكان، ولاسيما من فر منهم من أنظمة الطغيان، ووجد ملاذا آمنا في هذه البلدان.
وكل من يتابع هذه الفزعة الدانمركية الهوجاء، ويرى ما يفعله بعض الرعاع من على شاشات التلفاز، ويراقب دعوتهم المتحضرة، التي هبطت عليهم فجأة من السماء، لدولة الدانمارك "المتخلفة" للاعتذار الذي سينهي الأزمة، وسيحل كل المشاكل المستعصية التي تعاني منها هذه المجتمعات، وسيعلم المراقب المصعوق ، عندها، حتما، ما للاعتذارات من أهمية ومكانة، وتاريخ عريق متأصل، في هذه البلدان. فلقد تم إحراق سفارات دول صديقة وداعمة لقضايانا، وفي سابقة أممية خطيرة، وتصرف أرعن لا مسئول، وخرقا لكل المواثيق والأعراف الدبلوماسية والاتفاقيات، والأخلاق فقط من أجل الحصول على اعتذار، وكأن هؤلاء الناس مفطورون، وتربوا وفطموا على ثقافة الاعتذار؟ وكأن مسئوليهم الأشاوس، كانوا يعتذرون دائما وعلنا عن كل شنيعة، ونقيصة، وتشبيحة كانت، وما زالت ترتكب بحق الشعوب والأوطان.
وكأن هناك في كل قطر من هذه الأقطار، وزارة سيادية، ومستوزرها، طبعا، من الأقرباء والمحاسيب والأزلام، مهمتها الأولى تنسيق الاعتذارات يوميا للمواطنين، وتقديمها لهم مع طبق الفول، وسندويشة الفلافل، و"ضرّاب السخن" منذ الصباح، حيث لا تفتح شهية المواطن "المشحّر" على الطعام، والإقبال على يومه الوطني المثالي المليء بالنكد، وأخبار السوء، والتفجيرات، والسرقات، والدماء إلا باعتذار يأتيه من أولي الأمر الأبرار. وأن رهافة الحس العالية، والغنج، والدلال التي يتمتع بها المواطنون الكرام في هذه البلاد، تتطلب حقنهم بجرعات معينة من الاعتذارات، يوميا، لكي لا تنخفض نسب ومستويات الاعتذارات بالدم، ويقع المحظور، وتخسر الأوطان أحد المُعتذر لهم ممن تربّوا، ونموا في حظيرة تطييب الخواطر، وتبويس اللحى والشوارب، والكلام المعسل، والمجاملات.
ويستعرض المرء تاريخ هذه المنطقة الحافل بالاعتذارات، ويستذكر فعلا كم اعتذر الحكام من المحكومين، والسلاطين من الرعايا والأتباع، والجنرالات الأفظاظ الغلاظ من الشعوب والمستضعفين، والمخابرات من سجناء الرأي والوجدان، والأقوياء من الضعفاء، والأغنياء من الفقراء، والمافيات من المواطن الغلبان، والسادة من العبيد، و الشبيحة من البؤساء. وكم من اعتذار مستحق، بذمة، ورقبة الظلاّم، والمستبدين الأشقياء عن حجم البؤس الواسع، والتردي الصارخ، الذي نشروه، كأنفلونزا التعتير، في كل مكان.
ولا يستبعدن أبدا، بعد ذاك، ومع شيوع وانتشار، ثقافة الاعتذار، أن يجتمع وزراء الإعتذار العرب الأشاوس دوريا، كمنظمة رديفة لجامعة الأسف والاعتذارات، في واحدة من مدن السعادة، والتآلف، والاعتذار، لدراسة حالات الاعتذار المتوجبة للشعوب والناس، وإصدار بيان جماعي استنكاري ، وكالعادة، عن كل الانتهاكات، والإساءات، وتدنيس المقدسات، وكل المرارات، والوحشيات التي ارتكبت بحق هذه المجتمعات على مر الزمان.
وعذرا منكم، جميعا، ولا توا خذونا، كرمى للرسول، يا........شباب.