أخفقت الحملة ضد الدانمارك في أسلوبها، وتكتيكها، وهدفها، لأن كثيرين من السذج من نشامى الفزعة الدانمركية، وأتباع الجاهلية السياسية النكراء، يعتقدون أن هذه الدولة المتحضرة، ستتعامل مع فنانيها، وكتابها، وشعوبها بنفس الدموية، والوحشية، والهمجية، والبربرية التي يتعاملون هم بها مع النخب الفكرية، وأصحاب الرأي الآخر، والشعوب، بشكل عام، في بلادهم المنكوبة. وأن هذه الدولة ستتبنى نفس سياساتهم الرعناء، وأساليب البطش المرعبة السوداء، التي يتبنونها، حيث يقيمون حد الموت والرجم بدون تريث أو رادع، ويذهب صاحب الرأي الآخر، في رحلة أزلية تحت الأرض، ولن يشفع له عندهم، وقتها، لا سيدنا محمد(ص)، ولا كل أنبياء الله عليهم السلام أجمعين، ولا يقيمون وزنا، عند ذاك، لأي مقدس على الإطلاق. وأن الدانمارك "المتخلفة" ستقدم فورا على اعتقال رسامها، وستقوم دورية باسلة مؤللة من فرسان الأمن الميامين الأبطال، وبعد إطلاق التكبيرات، بجره من غرفة النوم، في هزيع الليل الأخير، ومن بين أطفاله، وزوجته المؤمنة والمسلمة، وتسليمه موجودا لـ"فرع الموت الزؤام" في المخابرات الدانمركية، ذاك الجهاز الإرهابي المتسرطن، والفتاك الشهير.
فلقد بدا العالم الإسلامي بطوله وعرضه، وأنظمته وشعوبه، ودوله المصدرة للنفط، والمستوردة له، والسارقة له، بشيبه وبشبابه، وحجابه وجلبابه، وفحوله و خصيانه، و"صغاره" قبل كباره، بأنه في معركة ضروس ومصيرية، مع العالم أجمع، وهو في واد، والعالم كله في واد آخر، في محاولة يائسة ومستميتة، لفرض ثقافته المنغلقة، وإظهار الجانب السلبي من فكره الأسود، لإعادة عقارب التاريخ إلى أيام السلاطين، والآغاوات، وحقب المجون والاستعباد، ودورة الحياة إلى قرون التخلف، والعبودية والتعتيم. ويعتقدون عن جهل، أن بإمكانهم، عبر هذه الغوغائية المفرطة، والتسطيحية الجارحة، إعادة هذه الشعوب التي حباها الله بالحرية، وأنعم عليها بالتخلص من الدجالين، والسحرة، وبياعي الأوهام، وأغلقت خلفها عصور التردي والظلام، وترفل بفراديس الديمقراطية، وحرية التعبير والكلام، وتداول السلطة بسلام، والانتخابات. فلقد راعهم وهالهم هذا المشهد الطاغي المفرط بأنواره الكاشفة، وشفافيته، وصراحته، وهبوا هبتهم المشبوهة والمشؤومة، بعدما شعر أولياء الأمور الديناصور يون أن زمام الأمور قد بدأ ينفلت من بين أيديهم، وأن البشرية قد دخلت عصور العولمة، والانفتاح، والانعتاق التي ستذهب بهم، وبتخاريفهم البلهاء إلى الفناء، ولذا، كان لا بد، من إحياء تراث التضليل، ونشر الأباطيل، والخرافات، والإرهاب.
هذا العالم المقفر الذي يعيش البؤس، والظلم والطغيان والاستبداد، والانحراف الحضاري، والشذوذ الفكري، والقصور العقلي، منهمك هذه الأيام في حرب البسوس الدانماركية الأولى، ونسى وتناسى كل المشاكل، والأمراض، والأوبئة، والسرطانات المنتشرة في كل خلية من المجتمعات المترهلة المغلقة والكئيبة، والتي تعيش على فتات الحضارة الغربية، وما توفره تكنولوجياتها، وما تجود بها عليهم مصانع الكفار، وتنتجه معامل الصليبيين، وتكنزه بنوك اليهود. تناسوا الديكتاتورية، وعبادة الأفراد، وتأليه الزعماء، والسجود للأصنام، وحفلات الشواء العام. وتناسوا الجهل والفقر والأمية والفساد الصارخ والرشوات، ولوردات المافيات، ومصاصي الدماء، وقطاع الطرقات الذين تحميهم أعلى المراجع والجهات، وتناسوا اللصوصية وسياسات الإفقار الممنهج، والنهب المنظم، والاستبداد الموجه، وتكديس الثروات الأسطورية، والمقابر الجماعية، وجرائم الإبادة السياسية، والآلاف المؤلفة من سجناء الفكر والضمير، والذين قضوا في سراديب وزنزانات تأنف منها حتى الصراصير، والقمل، والجرذان، والذين، كان سيحزن لهم أيضا سيدنا محمد(ص)، لإنسانيته العظيمة، وقلبه الكبير، وروحه السمحاء، لو سمع بمعاناتهم وظروفهم، وأمر بإطلاق سراحهم فورا، ودونما إبطاء، كما فعل حين فتح مكة بألد أعدائه الكفار، من الأمويين الطلقاء.
تناسوا دعمهم وتفريخهم لأمراء الإرهاب، ورعاية ثقافة الموت وقطع الرقاب، وأن كل هذه السياسات السلبية، هي التي ساهمت، وإلى حد ما، في ملامح هذه الصور الشنعاء. فكم من جريمة سياسية سيتم التستر عليها، وستمر في هذه الطوشة الهوجاء، وكم من مشكلة ستنوم ويعتم عليها، وكم من عملية سرقة ونصب وتشبيح ستحصل في هذه المعمعة الدانماركية، وكأن الزمن والحياة، ومصير الشعوب والناس توقف هنا، وكل المصائب والآلام المستعصية التي سببتها أنظمة الطغيان، سببها مجرد رسوم بدائية لرسام منحرف، لن تحط أبدا من قدر الرسول الأعظم لا في الأرض ولا في السماء، كما لن يرفعه، بنفس الوقت، كل هذا التراقص، والفوران، والبكاء. وكما قال شكسبير على لسان هاملت ذات يوم:"هناك شيء متعفن في دولة الدانمارك"، فإنه ممكن القول، أيضا، أن هناك شيء خبيث كامن، وراء مثل هذه الحملات، لإلهاء الناس، وتخديرهم عن الكثير من الأزمات.
حسنا، سنتبنى موقف هذه الحملة من الباب للمحراب، ولكن بشرط أن يتم التعامل مع كل المسيئين للنبي(ص)، والإسلام، والله، والشعوب بنفس السوية والمعيار. فللشعوب والبشر قدسية، أيضا، في كل الأديان، وعند الله وقد ورد ذلك في الكثير من الآيات, ليس أولها "ولقد كرمنا بني آدم"، وليس آخرها، "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"، لقدسيتها وأهميتها عند الله عز وجل. وألا يكون هناك موازين متأرجحة، أو مكاييل ومعايير مزدوجة، وعيون عوراء في النظرة، ونقد الأشياء. ففي العام الفائت، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، قام جنود أمريكيون، موتورون، ومتعصبون حاقدون بالإساءة إلى المصحف الكريم، ونشرت معظم وسائل الإعلام تلك الصور الشنعاء، ناهيك عن تعذيب المعتقلين في غوانتامو، والعراق وما رافقه من إساءات بالغة للصلاة، وطقوس ومشاعر الإسلام. وقبلها ليس بقليل دعا كاتب أمريكي، أيضا، لقصف الكعبة المشرفة قبلة المسلمين الأولى، بقنبلة نووية، وأثناء موسم الحج بالذات. فيما تقوم إسرائيل باحتلال القدس الشريف منذ أربعين عاما تقريبا، وتدنس المسجد الأقصى، يوميا، بجنودها المنتشرين كالذباب، وحفر الأنفاق أسفله، تمهيدا لتقويضه وانهياره. ومرت، وتمر هذه الإساءات مرور الكرام، ولم تقم الدنيا احتجاجا على هذا، لا بل يتضرعون أن تطبّع معهم إسرائيل وتفاوضهم، ويرسلون لها المبعوثين والسفراء، سراً وتحت جنح الظلام، لكي ترضى عنهم أمريكا، وتعترف بهم إسرائيل أخيراً، ويطلقون التصريحات، ويتفاوضون من تحت الطاولات، ومن وراء ظهور الشعوب، وكلهم أمل وتفاؤل ورجاء، أن يرد عليهم شارون، ويمن عليهم شالوم، ولو بابتسامة، ولكن، هيهات، ولسوء الحظ، يضن عليهم موفاز، حتى، بتحية، أو التفاتة أو إيماءة، تطيل في بقائهم على رقاب العباد. مع العلم الفاضح بأن أمريكا، وإسرائيل تتبنى رسميا كل هذه السياسات، ولا تفكر أن تعتذر أبدا عنها لا سرا، ولا علنا.
مسكينة الدانمارك ومظلومة، فهي لم تتعلم منهم، حتى الآن، الأصول و"الإيتيكيت" السياسي، وفنون القمع والاستئصال والنفاق والدهاء، علما أنها لم تتبن أبدا الرسوم الشهيرة لفنانها على الصعيد الرسمي، وهي لا تملك النفوذ، والأساطيل والجيوش والـ بي 52، والتوماهوك، ووكالة الاستخبارات المركزية والموساد، ولا تعرف تفاصيل تاريخهم، وفضائحهم، وأسرارهم، وخفايا ومخبوءات كل هذه الأنظمة التي ولدّتها جميعا بعمليات قيصرية بعد حمل غير شرعي، القابلة غير القانونية الأمريكية، وربتها في سنين القمع والاستبداد.
ولو كانت الدانمارك المظلومة بنفس جبروت وقوة أمريكا، وعنجهية وغطرسة شارون، ولها نفس الفضل الأبوي الكبير على أنظمة الطغيان الأبدية، لخرست كل تلك الأبواق الرسمية المشبوهة، والببغاوات التي تنعق ليل نهار ضد فرد مسيء لا علاقة لدولته به مطلقا. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل من الممكن أن نحمّل هذه الدول المنتفضة، وزر، ورزايا ملوك الإرهاب الذين كانوا نتاجا منطقيا لسيادة ثقافة الموت والإرهاب، وقطع الأعناق، والذبح البشري الحلال، مع العلم اليقين والمسبق بمساهمتها، وشراكتها، بشكل ما، في ازدهار، ونمو الإرهاب؟ وما السر الدفين في استنهاض الهمم، وصحوة الضمير، مجددا، بعد انقضاء خمسة أشهر على تلك الرسوم؟
لكي يكون هؤلاء المنتفضون عادلين، ومنصفين، بل وحتى مقنعين، عليهم أن يتعاملوا بنفس النخوة، والشهامة، والرجولة، مع من يستبيحهم، ويذلهم، وينغص عيشهم، ويسيء لهم ولكرامتهم، ويقهرهم كل يوم آلاف المرات، وبنفس السوية والحمية والمعيار، مع جميع المقدسات.
إنها فقط الجاهلية السياسية، والداء العضال، الذي لا شفاء منه، ولا براء.