"من دخل الكعبة فهو آمن, ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أقوال خالدة ومعبرة قالها الرسول الأعظم(ص)، في ذروة انتصاره المكي الساحق، تجسيدا لروح التسامح، والعفو عند المقدرة. ولكن يبدو، وبكل أسف، أن من يدخل دمشق هذه الأيام، سيكون غير آمن على الإطلاق، ولن ينعم بالطمأنينة والأمان، بعد ما حصل مع السفارتين الدانمركية، والنرويجية، اللتين تعرضتا للفتك، والانتهاك والاحتراق عن بكرة أبيهما، وكأن التتار قد استباحوا الشام مرة أخرى. لقد تمادى الرعاع، وذهب الغوغاء بعيدا، وسبقوا المحتجين في جميع دول العالم، حتى في لاهور، وكراتشي، وكشمير، وقندهار تلك البؤر الطالبانية الأشهر. ولِمَ لم يحدث ذلك سوى في الشام، والآن، الشام التي تميزت تاريخيا بالتسامح، وكانت تشع نورا، وألقا، وضياء، وبوتقة لجميع شعوب الأرض، والأديان؟
في قانون الطوارئ، القانون النافذ الوحيد، والمطبق بنجاح، وتحترمه السلطات أشد احترام، ويحرص المعنيون على تنفيذه وبحذافيره، والسهر عليه، يمنع التجمع، ولأي سبب كان، وتنظيم المسيرات، والاحتفالات، والندوات، وحتى في الأعراس، دون الحصول على إذن رسمي، ومن الجهات المعروفة بتشددها حيال هذا الأمر الحيوي والهام. فكيف لأولئك الغوغاء الذين استباحوا حرمة السفارتين من تخطي كل تلك الحواجز الفولاذية، وكسر الطوق الأمني وتحديه؟ لقد بدا أنه يُسمح فقط للرعاع باختراق قانون الطوارئ هذا، ولا يمتثلون له. والرعاع كانوا دائما فوق كل القوانين، والأعراف.
في كل الاتفاقات، والمواثيق الدولية، تمثل السفارات أرضا سيادية للدولة صاحبة التمثيل، وتوجب على سلطات البلاد، والجهات الرسمية احترام هذه السيادة، والعمل على حمايتها وعدم المساس بها، ولكن الرعاع لا يعترفون بسيادة أحد، ولا يحترمون أية مواثيق، وأعراف دولية.
هل بقي أدنى شك، أن هناك دولا قطعت شوطا حضاريا طويلا، وبلغت "مراحله" النهائية، ولكن، وبنفس الوقت،هل بقي أدنى شك بأن هناك دولا، وحكومات، وشعوبا ما زالت تعيش في الكهوف والأدغال، ولم تضع أقدامها، بعد، على بداية هذا الطريق الطويل والشاق، وإن كانت تحاول أن تظهر، وتقول، غير ذلك في وسائل الإعلام.
في السلمية في قلب البادية السورية، والتي تبعد عن دمشق مئات الكيلومترات، مُنع عقد اجتماع بسيط لعدد من ناشطي حقوق الإنسان، وكانت "العيون" الجاحظة ساهرة، والحمد لله، تراقب هذا الخطر الداهم والنشاط المشبوه، بينما مرت تلك الجموع الغفيرة، في قلب الشام، دون أن تلحظها، أو تدري بها نفس العيون النجلاء، وذهبت في إغفاءة لذيذة في عز النهار.
هل آن الأوان لكي يكون المرء خجلا من "سوريته" هذه الأيام؟ وهل أصبحت "السورية" لعنة تطارد كل من يحملها؟ تلك "السورية" التي لم يبق منها شيئا الآن، ولم تعد تعني سوى الفقر، والبؤس، والتردي العام، والتشرد، والضياع، والمذلة، والهوان، والانقضاض، بدون وازع ورحمة، على من مُنحوا عهد الأمان، واختزلت، السورية الأعرق، في حرق السفارات جهارا، وأمام الكاميرات؟
ماذا سيقول الناظر في كل مكان، والغربي بشكل عام، وهو يرى الرعاع يستبيحون حرمة السفارات؟ لعله سيكون من الصعب جدا عليهم فهم ذلك، وتقبله؟ كما أن اقتلاع هذه الصور الشنعاء، وتلك القناعات، من ذهنه، بعد ذاك، سيصبح ضربا من المستحيل, وحرثا بالماء. إنها الرسالات الخاطئة، في الأزمنة الخاطئة، وفي كل الاتجاهات الخاطئة.
ليس هناك أبأس من قضية عادلة يتولاها محام فاشل. فما بالك حين يتنطح، لأقدس القضايا، والرسالات، الغوغاء، والرعاع ؟
هل صار من يدخل الشام، في خطر، وغير آمن على نفسه، وماله، وعرضه، حتى لو كان هناك مواثيق، والتزامات، واتفاقيات، وقانون دولي عريض يكفل، ويضمن هذا الأمان؟ إن حرق السفارات، وبتلك الطريقة المشينة، يجيب عن هذا السؤال المرير، والهام.