الدم العراقي المهدور في شباط الأسود..!
هادي فريد التكريتي
hadifarid@maktoob.com
ثلاثة مناسبات حزينة، اجتمعت على الشعب العراقي، في شهره هذا، شباط الأسود، أولاها، أقدمها وأقدسها وأكثرها حرمة ومأساوية، هي ثورة الشهيد الحسين، على سلطة مغتصبة وجائرة، مورست في قمعها قوة مفرطة بالوحشية، لم يسلم منها حتى الطفل الرضيع، في ظروف غير مواتية، ودون تناسب في القوى، فخلدها التاريخ منذ 1400 لأنها طرحت قيما سامية أمام المقهورين، في مقاومة الظلم وسلطة البغي، خارج إطار العدد والكم، فعاشت في فكر وقلوب المغلوبين والمقهورين، وظلت معاني وقيم هذه الثورة العظيمة بدلالتها، المريرة والقاسية بنتائجها، لا تمد بتجربتها العراقيين فقط، بل أصبحت ملكا لكل من اكتوى بعسف سلطة الدين المطلقة، وجور سلاطين الدين والمتاجرين به وفيه.
المأساة الثانية في هذا الشهر، في الرابع عشر من شباط عام 1949 حين أقدمت السلطة الملكية العميلة للإنكليز، على إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي، فهد وحازم وصارم، انتقاما منهم للنجاحات التي حققها الحزب، في توحيد الحركة الوطنية العراقية، التي هيأة ظروفا وطنية ملائمة، لنجاح وثبة كانون الثاني الوطنية، في العام 1948، حيث أسقطت معاهدة بورت سموث الخيانية، التي ضمنت حقوقا إضافية ومطلقة للإنكليز، والتصرف بالشأن العراقي، أرضا وشعبا، وارتهان اقتصاد البلاد، وخصوصا النفط، تحت إدارة ونهب الشركات النفطية البريطانية لأجيال قادمة. حاول النظام الملكي العميل، وحكام خونة من أمثال نوري السعيد وصالح جبر، فرض هذه المعاهدة على الشعب العراقي بديلا عن معاهدة 1930 الجائرة، إلا أن وثبة كانون الثاني، أفشلت مسعى الحكام الخونة، وألغت المعاهدة، معمدة بدماء الكثير من شهداء الشعب العراقي، فنتيجة لحقد هذا النظام، على الحركة الوطنية العراقية، وبالذات على الحزب الشيوعي العراقي أقدم على إعدام قادته.
والمناسبة الثالثة، جريمة كبرى، حزينة وقاسية، تحل بالشعب العراقي في هذا الشهر، يسجلها التاريخ العراقي المعاصر في 8 شباط من العام 1963، بحق خونة من القوميين العرب والبعثيين، متواطئين مع شركات النفط، والمخابرات الأمريكية، على إسقاط ثورة 14 تموز، كان نتيجتها التأسيس لحكم قومي ـ فاشي، وسقوط آلاف الضحايا من شهداء الشعب العراقي، نساء ورجالا، في شوارع المدن والحواري الشعبية المقاومة للمؤامرة، ولم تخلُ السجون من الضحايا الشهداء. لم يفرق القتلة بين شخص وآخر، فكل أبناء الشعب هم مشروع قتل طالما لم يكونوا متآمرين منهم، ظل العراق شهور عدة، وهو يعيش في مأتم كبير وحزن عميق، ورغم الضحايا التي فاقت كل تصور، وبرغم أن الشهداء كانوا من كل القوميات والأديان والطوائف العراقية، إلا أن الوطنيين والشيوعيين كانت حصتهم الأكبر، من هذه الوليمة الفاشية، المتحالفة مع المخابرات الأمريكية، بقيادة رئيس البعثة الأمريكية آنذاك.
ضحايا الشعب، كانوا أكثر مما يمكن عدهم وحصرهم، قادة وكوادر وطنية، مدنيين وعسكريين، رجالا ونساء، ناهيك عن كل قيادة ثورة 14 تموز الوطنية، وأغلب قادة الحزب الشيوعي ورفاقه، كان شهر شباط شهرا أسودا، داميا وحزينا، إلا أن الشعب العراقي لم يلق السلاح ولم يستسلم للنظام الجديد وميليشيات الحرس القومي، فما هي إلا أشهر حيث تهاوى التحالف الفاشي ليسقط النظام العميل، معترفا بعمالته قادته قبل غيرهم، لينهض الشعب العراقي لاعقا جراحه، محاولا إعادة بناء ما يمكن.الخسارة كانت عظيمة وقاسية بكل المقاييس، ولم يجد الشعب حوله من يعينه على البلوى غير أبنائه.
ما يعانيه العراق والشعب في ظرفنا الراهن، من مشاكل على مختلف الأصعدة، ليس بمعزل عما أورثنا إياه الحكم الفاشي الساقط، ولم تكن نتائج ذلك الحكم بعيدة عن تواطئه وتعاونه، مع القوى الأجنبية، وخاصة أمريكا، التي أسقطته، فالعراق ومنذ غابر الأزمان منطقة تحظى باهتمام القوى الكبرى، ليس فقط لأنه ضمن منطقة استراتيجية، وموقعه الجغرافي الرابط بين الشرق والغرب، بل وأيضا لأنه آخر معين ناضب من الطاقة التي يتكالب عليها العالم اليوم، فأمريكا لم تقدم على إسقاط النظام الفاشي، من أجل حرية وبناء ديموقراطية للشعب العراقي، كما يدعي البعض، فأمريكا، كانت على الدوام شريكا للنظام في كل الشرور التي ارتكبها، ليس بحق دول الجوار فقط، بل ما كان قبلا من تضييق على حرية الشعب العراقي، وقمع قواه الوطنية، وحتى الحرب الداخلية مع الكورد، كانت هي وراء جرائمه تلك، فإضعاف الحركة الوطنية والديموقراطية والتضييق عليها، في أي مكان غير بلدها، أمرمرغوب فيه وُيََسهل عليها أمر الحصول على ما ترمي إليه وتريد من أي نظام. لو كانت، أمريكا، فعلا ترمي لبناء الديموقراطيات في المنطقة، ومن ضمنها العراق، لما أقدمت على تحطيم الدولة العراقية ومؤسساتها، ولما فتحت الحدود أمام قوى الإرهاب، ولما سمحت بتأسيس الحكم وفق مبادئ المحاصصة الطائفية والعنصرية، ولما تدخلت، حتى اللحظة، في الشأن العراقي.
أمن العراق، سيبقى ملتبسا، والدم العراقي، سيبقى نازفا، طالما كان قرار تلاقينا أو تباعدنا، خصومتنا أو تصالحنا، مرهونا بالقرار الأمريكي، وطالما قادتنا السياسيون، بكل طوائفهم وقومياتهم، وبغض النظر عن معتقداتهم وأفكارهم السياسية، يهرعون طالبين النصح والمشورة من عميد السفارة الأمريكية، زلماي خليل زاد، لحل ما يعاني منه الوطن، ويشكو منه الشعب العراقي. من يبغي مشورة ونصحا من عدو فلن يجد سوى المأساة، والمأساة هي أن نلجأ لتجربة المجرب الفاسد. قضيتنا التي نشكو منها عراقية بكل تفاصيلها ومفاصلها، والحل عند العراقيين أنفسهم وبيدهم، من غير أن يجتمع عقلاء العراق وناصحوه فيما بينهم، ويتدارسوا الحلول الوطنية الواجب الاتفاق عليها وتنفيذها، فلا حل ولا اتفاق، ولن يكون الوفاق حاصلا بين طوائفه أيضا. العراقيون، فقط، وحدهم القادرون على إيجاد حلول ناجعة لقضاياهم، قادة العراق، إن أخلصوا النية له، قادرون على إرساء الأمن والاستقرار ووحدة الشعب، أما الأجنبي فلن نجد عنده سوى مبادئ فرقة وخلاف، نتيجتها مجربة وملموسة، مآس وأحزان جديدة، تشمل الشعب وكل قواه دون تمييز، وليس مهما إن حصل هذا يومئذ، في شباط أم في كانون فالأمر سيان..!
العودة الى الصفحة الرئيسية