إن لم تستطع إشعال حرب على الفقر أشعل سيجارة
إن لم تستطع إشعال حرب على المرض والجهل أشعل سيجارة
إن لم تستطع إشعال (لآلة) عند الظلام الدامس أشعل سيجارة
وأنا أسير في أزقة مدينة الصدر الضيقة، وإذا برجل كبير قد أنهكته الأيام
والمشاوير، فوجهه المطمئن الذي خطت بين جوانبه لحيته البيضاء كالفجر، وقد
جذبني وأغراني بريق ماءٍ تحجر على أتساع عينيه خلف زجاج نظارته السميكة،
وبدت ملامحه وكأن السيجارة التي يمسكها بين أطراف أصابعه المتجعدة لم تنزل
من يداه قط، خطف الرجل المسكين احد الواعظين – وما أكثرهم – اقترح عليه –
ذات نصح لم يبدأ به نفسه – بأن يقطع التدخين فهو يزيد الهموم ضبابية في
داخله، ولقد ذكره أخينا الناصح بصفة الطبيب الذي يعلّم غيره ويتجاهل نفسه :
أن التدخين يحيل رئتاه إلى مزيج من الألوان اللزجة، تختلط في مزيج يفقد
اللون الأسود هيبة الخوف والرعب.
عجباً، نحن نحارب ما نملك فيه الإرادة وحرية الاختيار، نحارب الظلم لأن
العدل خيار متاح، نحارب الجهل لأن العلم خيار مشاع.
لكن، باتت الحرب والظلم والاضطهاد واستغلال المغفلين مسلك للموت وآلة
كثيراً ما يعول عليها واضعوا القرار أو من يؤثرون فيهم، وفي ضل هذا الجو
المتوتر مارس الرجل وسيلة بسيطة وسهلة تعبر عن حرية الإنسان ألا وهي التدخين
حيث يسعى إلى إحراق همه بإحراق أي شيء بين يديه!.
ولأن ثلاثية الدمار الشامل: الظلم، والجهل، والمرض تتربى في بيئة الفقر
أحياناً، وجيوش الجوع يمكن دحرها بعمليات انتحارية تدعى (الخبز). ولأن
قيمة الرغيف أصبحت أغنى من الدخان، فأن لم تستطع محاربة الفقر فأشعل سيجارة.
شيء جميل حينما نرى بلد تغرقه الديمقراطية حتى رأسه، وينعم بشتى أنواع
حقوق الإنسان والحيوان معاً، لكن من المحزن جداً أن نرى البلد ذاته لا ينعم
بنوعٍ واحد من رغيف الخبز، ولا يملك في حياته سوى مسودة الدستور التي
وصلته حين طرق عليه الباب(وكيل الحصة) يحضرها له، وأتذكر مقولة أحد أساتذتنا
الكرام حين قال : ما فائدة ديمقراطية الهند ولا يوجد فيها رغيف الخبز!
وأقول : ما الضير لو أجتمع الاثنان.
نحن لا نستغرب حينما ينبري للظلمة أستاذ البشرية ومعلمها علي أبن أبي
طالب (ع) حينما يصف الفقير في بلده يقول: " ليس في الغربة عار، إنما عار في
الوطن افتقار". ولم يذهب بعيدا الشاعر السياسي العراقي المعروف (احمد مطر)
حين قال في قصيدة (سلاطين بلادي) : الأعادي، يتسلون بتطويع السكاكين،
وتطبيع الميادين، وتقطيع بلادي، وسلاطين بلادي، يتسلون بتطبيع الملايين،
وتجويع الملايين، وتقطيع الأيادي...
أنت أسأل احد هؤلاء المساكين الفقراء كم يبلغ عمره؟ كن هادئاً ولا تتعجب
حيث يطلق لك جواب غريب مفاده : بلغ عمري بالكثير ثلاث إلى أربع سنوات إن
لم يكن أقل! وحالته كسيرة أخينا (جبر)، أظن إن الكثير قد يعرفه، وفحواها
أنه أثناء زيارته لبلد أجنبي عرّج على مقبرة، فرأى على شواهد القبور من
الشيء ما أذهله ... إذ خط على واحد منها: (هنا يرقد فلان الفلاني – ولد عام
1917 ومات 1985 – عمره 3 أعوام) ! مفارقة عجيبة، ومثل ذلك بقية القبور، فلما
سأل عن سر هذا التناقض أفاده مرافقه: أنهم يحسبون عمر الإنسان بعدد
الأعوام التي عاشها سعيداً. عندئذ قال جبر للمرافق : وصيتي إذا مت أكتبوا على
شاهدتي (هنا يرقد جبر ... من بطن أمه إلى القبر). انصح جميع فقراء العراق أن
يحذون حذوا أخينا (جبر) المسكين.
فما للفقير من حيلة بعد ذلك سوى استئناف تدخينه، كان اثنان يقفان في
طابور لملأ سيارتهما بالوقود، وكان الطابور طويل جداً، يبدأ من شارع صغير
جداً جدا،ً وينتهي بعيداً جداً جداً جداً.
سأل الأول: هل لديك سيجارة؟
أجاب الثاني: بالطبع تفضل،أكمل جميله بإشعالها له.
أصبح التدخين مشاركة وطنية ضاهت في أهميتها المشاركة الوطنية
بالانتخابات؟! لأنه عندما لم يجد أحدهم شيئاً يقدمه ليدفع الآخر إلى الحياة، أكرمه
بشيء يشاركه به الموت، أخيراً سيكون شعارنا الوطني الجديد .. يا فقراء
ومساكين العراق ... دخنواً .. ويجدر التنويه إن كاتب السطور لا يطيق حتى دخان
السيجارة!!.
جامعة بغداد – كلية العلوم السياسية
مدينة الصدر المجاهدة