استذكر أحد الخبثاء على هامش موضة التغيير، والتوزير الدارجة في هذه الأصقاع هذه الأيام قائلا: عندما يبدو أن "أكياس" الوزراء، قد امتلأت ، وأصبحت عامرة باليورو والين، والدولار، ولم يبق مكان لا للمال، ولا للصفقات، ولا للعمولات، تزف ساعة الرحيل، ويبدأ الجميع بالتحضير للإقلاع، والتمتع بما كسبت اليدان، واللهم لا حسد، والله يطعمنا مثل ما طعم الوزراء في بلاد الفساد والإفلاس، وسرعان ما يبدأ التململ، والرغبة في "تشميع الخيطان" والزوغان، ودخول عالم البيزنس والمال، والاستثمار في سويسرا، ولوس انجلس، وماربيا، وكان، قبل فوات الأوان. ومعظم الوزارات المرحومة منها والموعودة ينطبق عليها المثل الشامي "تيتي تيتي" يا حكومتنا العتيدة، مثل ما رحت مثل ما "جيتي"، حيث لا تكون قد خلفت وراءها، أي إنجاز يذكر والحمد، والشكر لله.
ولمن لا يعرف قصة الكيس فهي أنه، وفي سالف العهد والأوان، يا سادة يا كرام، هب الناس ضد أحد الولاة، والوالي في التاريخ التليد الذي كنا نغني له الأناشيد الحماسية في الصباح، في حفلات غسل الدماغ الجماعية المعروفة أيام لهيب الثورات، كان، يا طويلي العمر، بمثابة محافظ، أو رئيس فرع مخابرات مطلق الصلاحيات في هذه الأيام، وكان يوهب هذه الولاية، أو تلك المدينة، ويسلم رقاب الناس ليطوّعها، ومن مهامه أيضا قطف الرؤوس اليانعة التي حان قطافها، ويجبي خراج الولاية، ويقدمها هنيئا مريئا لأولي الأمر "الحبوبين الطيوبين" الودعاء الأمناء، وكان كلما يعين واليا، يُحضر معه كيسا ، أو صندوقا كبيرا فارغا، وتبدأ عملية الحلب وسحب الخيرات، ويعمل منذ اليوم الأول لولايته المباركة خدمة للمبادئ، والأخلاق، والشعارات في جني، وجبي المال ووضعه في الكيس الكبير خلسة عن أعين الفقراء، حتى يترع ترعا، وتثقل الأحمال، ثم يُنقل هذا التقي الورع، إلى ولاية أخرى تئن من الفاقة وضنك الحال، وهكذا دواليك حتى هلكت، وأفلست وشحذت، الناس، فقاموا يطالبون بعزله، والإتيان بوال جديد نظيف اليد، وفارغ الأكياس.
ووقفت الجموع الهائجة أمام قصره المنيف، تطالبه بالرحيل عن أعناق، وكاهل الناس، بعدما أشبعهم جورا وظلما وغلاء، فخرج أليهم هاشا، باشا، ضاحكا ضحكته المعتادة الصفراء، وكان سياسيا مجربا، وداهية محنكا، ورجلا متفلسفا، وخطب فيهم قائلا : يا قوم لقد وليتكم، لأني أقلكم رحمة، وأطولكم يدا، وأشطركم فذلكة، وأكثركم تزلفا، وأكبركم كيسا، وأشرهكم طمعا، وأجملكم خطا، وأغزركم كتابة للتقارير، وأسرعكم لهطا، وأكرمكم خطبا، وأكذبكم قولا، وها قد امتلأ للتو كيسي الكبير ذهبا، وفضة، ودراهم ودنانير، ولم أعد بحاجة للمزيد من السطو على طعامكم، ورزقكم، ومؤونتكم، وتنغيص حياتكم، وتكدير عيشكم، وسرقة أموالكم، ولو امتثلت لطلبكم ورحلت الآن، فسيأتيكم ربما من هو أطول مني يدا ، وسيكون كيسه فارغا تماما، وسيعيد عليكم كرّة الآلام والنهب والعذاب، فهدؤوا من روعكم، وعودوا إلى بيوتكم، فو الله ما أحب مضرتكم وشقاءكم أبدا، ولو أحببتهما لرحلت عنكم اليوم وقبل غد، ولو طاوعتكم ، وفعلت، فستترحمون علي من الصباح الباكر، ومع أول جولة نهبوية لعسس الوالي الجديد أبي الكيس، والعين الفارغة.
وهنا، ساد هرج، ومرج بين الجموع الثائرة، وبعد مداولات، ومشاورات، صاحوا جميعا صدقت والله يا مولانا، وأنت خيرنا، وأحكمنا، وقلبك، فعلا، علينا، وطالبوا ببقائه واليا عليهم، ولا سيما بعد أن أحضرت ثلة من الجباة المدججين بالأكياس المسروقة، وباللباس الميداني الكامل، تتقدمهم أكاليل الورد والغار، كيس الوالي الكبير المليء بالأموال، وعرضوه على الناس الذين عاينوه مليا بقلوب مفعمة بالغيظ والألم، وعيون مليئة بالحسد والآهات، وهللوا وصفقوا، حتى أن البعض طالب أن يُفتدى كيس الوالي المترع، بالروح ودماء الفقراء. وبعد الانتهاء من مراسم هذا المهرجان الكيسي الكبير، عاد الجميع إلى بيوتهم، فرحين بهذا العهد، والاتفاق والاكتشاف العبقري، الذي منّ به عليهم الوالي السلطان، وأيديهم على قلوبهم، جزعا، من قدوم وال جديد، وعاشوا بعد ذاك بهناء، وثبات، وخلفوا صبيان وبنات.
وأما نحن الذين لا ناقة لنا، ولا أية أكياس في هذه الأوطان، وجيوبنا كلها خاوية، وتصفر فيها الرياح، نضم صوتنا لصوت ذاك الوالي الفهمان، ونقول، وكرمى لله والرسول، إذا كانت الوزارات الجديدة، كسابقاتها، لا تحل، ولا تربط، ولا تقدم، ولا تؤخر، ولا تغير، ولا تبدل، فهل لها من مهمة سوى ملء المزيد من الأكياس؟ و رجاء لا تفتحوا علينا مزيدا من الأكياس، ويكفينا ما فينا، وما يطفو على السطح من "أكياس" مفتوحة، لا يملؤها، ولا يشبعها سوى التراب.