عاش العالم برمته كابوسا مرعبا إثر الثورة العارمة، والاحتجاجات العنيفة في طول العالم الإسلامي وعرضه، والتي أعقبت نشر الصور المسيئة للرسول محمد(ص)، الأمر الذي أظهر عدة جوانب حادة من صراع الحضارات وتباين الثقافات، واختلاف الآراء. وأن الطريق ما زال طويلا، و الهوة ما تزال عميقة، أمام عولمة ثقافية متجانسة، تتيح التفاهم الإنساني الشامل، وتقرب وجهات النظر، تحترم الآخر المختلف، وتتعايش معه، وتتفهمه وتنظر إليه نظرة احترام، و تقدير.
سِيَر الأنبياء، وقصصهم كانت دائما تحمل ذلك المضمون الإنساني الشامل، وفي كتب التاريخ، والإسلامي منها بشكل خاص، هناك، سرد مشوق وطيب، وسيرة عطرة للرسول محمد(ص)، وحكايات، ولا شك، تسر الخاطر عن التسامح، والأمانة، والصدق، وسجايا شخصية أخرى ترسم لوحة ناصعة في أعين الناظرين، وكل من يقرأ هذه السيرة النبوية الشخصية، سيخرج بهذا الانطباع الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه إيجابي.
و لكن، ولنعترف، وبكل هدوء، أن هناك صورا كثيرا مشوهة، وكاريكاتورية، أيضا، يرسمها، مجازياً، بعض من "فناني الكاريكاتير" المسلمين أنفسهم، وعن سوء تقدير، وجهل لما يفعلونه ويقولونه أحيانا، وأصبحت ترتسم، وتقبع بعمق في مخيلة الكثيرين حيال الإسلام والمسلمين. تلك الصور السيئة، والتي لا تعكس صورة الدين الحقيقي، لم تأت من فراغ، ولم تنشأ مطلقا عن قراءة متأنية، فردية، ومجردة، ومن مصادرها الأصلية والتاريخية للسيرة النبوية الشريفة، ولكن تأطرت، و تموضعت، آخذة شكلها النهائي في أذهان الآخرين، من خلال المتابعة المتلاحقة، والممارسات اللامسؤولة أحيانا، واليومية للأحداث الدامية التي تعصف بعالمنا العربي والإسلامي، وما تنقله وتبثه وسائل إعلامية عربية وإسلامية، فيها الكثير من التشويه، والرسائل الخاطئة، والصور السوداء، والتحريض، والقتل والدماء، في ظل تلكؤ وفشل رسمي، أيضا، بالدعم في اتجاه رسم، ونقل صور طيبة للآخرين عن هذه المجتمعات. كما أن ما ينطق به أيضا، بعض من شيوخ التكفير، وما يمارسه بعض المغتربين الذين نقلوا كل أمراض، وعقد، وآفات مجتمعاتهم، والجانب السلبي فقط، والأسوأ منها، للدول التي حطوا رحالهم بها، تساهم، أيضا، في رسم المزيد من الصور "الكاريكاتورية" المشوهة.
فهل يمكن النظر ببراءة، بعد الآن، إلى ما تحرص على بثه الكثير من وسائل إعلامنا الذكية، وأصبح جزءا من سياستها، والتي تعتبره بطولة وجهادا، لتنقلب الصورة، رأسا على عقب، وتترك الانطباع السلبي، عندما يراها المتلقي الآخر، وتترك في قلبه وعقله تلك الآثار والصور المشؤومة التي رأيناها في تفكير الرسام الدانماركي، وهذا ليس بعذر وتبرير له، بأية حال، على فعله الصارخ المشين. ألا يصبح الارتياب نتيجة منطقية، وحقيقة مطلوبة إزاء كل من يمجد أمراء القتل، وشيوخ التكفير، ويروج لهم، ويسوقهم، وينظر إليهم على أنهم أبطال ميامين؟
ويكاد المرء يجزم كليا، حيال كل ذلك، بأن الرسام الدانماركي ذاته، لم يقرأ شيئا من كل تلك السيرة العطرة للنبي، واستلهم رسومه المنكرة من ممارسات وأقوال بعض الجهلة بالدين القويم، من "فناني الكاريكاتير" الذين يرسمون يوميا، عشرات الصور الكاريكاتيرية والمؤلمة عن الإسلام والمسلمين، وتزينها، عن سوء، أو حسن نية، وسائل الإعلام المتخلف الهجين. لا شك هناك الكثير من القضايا العادلة التي تناضل من أجلها الشعوب في هذا الشرق المنكوب والمسكين، ولكن ليس هناك أبأس وأردأ، ولا حتى، أخسر من قضايا عادلة يتولاها محامون فاشلون وخائبون كاريكاتوريون ومضحكون، كصورة أحد "الدعاة" المشهورين، والخطاف بيديه، مهددا، ومتوعدا بإبادة أجناس بشرية كاملة عن الوجود، هل تبقى ثمة مشاهد كاريكاتورية أكثر من هذا؟
ها قد اعتذرت الصحيفة، الآن، وتراجعت "مرغمة" تحت ضغط الشارع، وشدة الاحتجاجات في عموم العالم الإسلامي، و تركت ندوبا وجروحا غائرة وعميقة، وليس من اليسير أن تندمل في وقت قريب. ويبقى السؤال الأهم، والأكثر إلحاحا الآن متى يعتذر بعض "رسامي الكاريكاتير" المسلمين، ويكفون عن نشر آلاف الصور المشوهة أيضا، وبعث آلاف الرسائل الخاطئة بمختلف الاتجاهات، هنا، وهناك، عن الإسلام والمسلمين.