|
المقاومة الثقافية الدونكيشوتية في الزمن العجيب حمزة الجواهري لقد شاهدت كما شاهد غيري ما جرى في العراق، فنحن شهود بقدر ما نحن ضحايا ومعنيين بشكل مباشر، ويقع وزر نقل الحقيقة للأجيال وللتاريخ الإنساني على أي عراقي مثقف أو أي إنسان عاقل، وإن أهم المواقف التي يجب أن ينتبه لها المثقف هي تلك المواقف التي تتخذها الشعوب حين تواجه الأزمات، ومن لا يقدر حقيقة ردود الفعل الشعبية ولم يتلمس كل جوانبها فهو ليس بمثقف ولا حتى شاهد، إنما هو إما غافل أو متغافل، أما حين يكون المثقف شاهد زور أو منافق، فهذا أمر لا يمكن السكوت عنه. يوم دخلت الجيوش الأمريكي والبريطاني للعراق راقب العالم من خلال مئات الفضائيات والصحف ووكالات الأنباء مشهدا غريبا على التاريخ الإنساني، وهذا ما سأحاول أن أختصره بالقدر الذي يكفي لمراجعة موضوعية. الحاكم كان غاية بالهمجية والقسوة وأذاق العراقيين أبلغ صور العذاب على مر خمسة وثلاثون عاما، ولم تكن الفترة التي سبقتها أقل سوءا من حكم البعث، فهي حسب تعبير الكثير من أبناء العراق امتداد لتلك الفترة، أي منذ انقلاب 8شباط عام58 ، لذا لم يجد العراقيون مبررا ولو واحدا يجعلهم مدافعين عن ذلك النظام الذي دمر كل شيء في العراق ولم يبقي من العراقي سوى بقايا إنسان، إنسان محطم يائس مهزوم لا يجد أمامه سوى بقايا أمل بالعيش، وبلد محطم، بل ركام. من جانب آخر كان على العراقي أن يرفض دخول القوات الأجنبية لأرضه، وكان عليه أن يرفع السلاح للوقوف بوجه تقدمها، وهذا هو العرف العام الذي عرفه الإنسان عن التعامل مع القضايا التي تخص الأوطان، لكنه وجد إن هذه الجيوش بذات الوقت هي الأمل الذي بقي للقضاء على نظام صدام، لذا قبلوا به بالرغم من إن الأمل قد ولد مريضا. وهكذا بلا تردد وقف الشعب العراقي صفا واحدا في انتفاضة جبارة للحياد، فلم يدافع عن الوطن أمام المحتل الأجنبي، ولم يحمل السلاح معه ليسقط ما تبقى من النظام، وهكذا بدا المشهد العام، مشهد سقوط النظام، والذي هو بذات الوقت وقوع البلد تحت الاحتلال. هذا المشهد لم يبتدعه شخص ما ولا منظمه حزبية محددة، كما ولم تدعوا له شخصية وطنية ذات قوة كاريزمية كي يستجيبوا لها، بل كان موقفا شعبيا عفويا منسجما بشكل مذهل، بحيث اتفق عليه من كان في البصرة مع ذلك الكوردي الذي يعيش في كوردستان، والصورة الأبلغ هو أننا شاهدنا الكثير من الأطفال يلوحون بأيديهم للجيش المحتل في الوقت الذي كان فيه الكبار يطرقون برؤوسهم نحو الأرض، الأطفال بعفويتهم المطلقة عبروا عن الفرح الذي خجل منه الكبار ولم يستطيعوا التعبير عنه، لأنهم لم يعرفوا بعد معنى الاحتلال فيما يعرف الكبار أن أمامهم سنوات أخرى، ربما عجاف، لحين خروج المحتل، لكن الذي اتفق عليه العراقيون بعفوية مطلقة هو أن التعامل مع الاحتلال أكثر سهولة من التعامل مع نظام همجي بهيمي كنظام الطاغية صدام. للحقيقة وللتاريخ أيضا لابد أن نشير إلى أن ما اتفق عليه العراقيون العامة كان قد اتخذته بعض الأحزاب التي كانت في الخارج، فقد كانت مطابقة لهذا الموقف الشعبي العفوي العام، فالحزب الشيوعي، على سبيل المثال وليس الحصر، كان قد أطلق شعاره أن لا للحرب ولا لنظام صدام المجرم، وخلال الاحتلال كان للمرجعية الدينية موقفا مطابقا إلى حد بعيد، وهو أن يقف العراقيون وقفة حياد، وأن لا يرفعوا السلاح إلا بوجه من يريد لهم الأذى، وهكذا انسجمت المواقف للعراقيين بشكل لا سابقة له في التاريخ الإنساني، أللهم إلا تلك الحالات التاريخية الذي تناولها ميكافيلي في كتابه الكبير تاريخ فلورنسا، حيث لم تكن مشابه بشكل مطلق لما حدث في العراق. أما نراه من مقاومة فهي عمليات انتقام لفلول نظام مهزوم أمام العالم وأمام شعبه، بل وحتى أمام ذاته، لذا كانت ومازالت المقاومة اللقيطة التي يمجدها الشاعر تستهدف الشعب انتقاما أكثر من استهدافها للمحتل. كان هذا وضع من هو في الداخل، أما من كانوا في الخارج، وشاعرنا الذي استفزنا بمقالته ونظرياته عن المقاومة الثقافية كان أيضا منهم، فقد اسقط عنهم نظام الطاغيان المطلق حق المواطنة الذي يتمتع به حتى الكلاب السائبة، لكن بعد أن سقط النظام عاد للعراقي أينما كان حقه بالوطن. فأي احتلال هذا الذي يعيد للإنسان حقه بالوطن كاملا؟ هل نضحك على أنفسنا؟ أم إن البعض قد اعتبر الغربة وطنا له فما عاد يهمه أن يعود الوطن لأهله، لا أن يبقى ملكية خاصة إلى شلة من أبناء قرية عراقية واحدة فقط، أما الباقون من أبناء الشعب العراقي، فإن من بقي منهم يتمتع بحقه في الوطن، كان بلا شك من درجة أدنى بالمواطنة عن الآخرين، حيث هناك درجات للمواطنة في زمن البعث العجيب، تبدأ من الدرجة الأولى وتنتهي ربما بالعاشرة وفق ترتيب لم تعرفه الإنسانية من قبل! لكن بعد احتلال الوطن، وطن أستاذنا الكبير في الوطنية، عاد الجميع بذات الدرجة بالمواطنة، فلا فرق بين سكان الأهوار ومن يسكن في العوجة. نعم مازال العراق بائسا محطما وركاما، وما يزيد من بؤسه هو تلك الفلول البعثية التي يسميها شاعرنا، الذي استنجد بفرانسوا ساغان، بالمقاومة، ولا ندري ما إذا كان الزرقاوي يعتبر مقاوما للاحتلال أيضا بنظر شاعرنا الكبير أم لا؟ على حد علمي أنه لم يصرح برأيه صراحة عن موضوع الأزارقة في العراق لحد الآن! لكن ما يهمنا الآن هو الثقافة التي يبكيها الأستاذ الشاعر الفيلسوف في مقاله التي نشرت أخيرا بعنوان "المقاومة الثقافية...فرانسوا ساغان نموذجا" والتي يجد أن على عاتقه يقع وزر تحريرها! وما أثار حفيظتي هو أن ثقافة العراق كانت بالفعل محتلة منذ أن دخل الفكر القومي على العراق وصادر جميع مفردات الثقافة لتكون ملكية خاصة به، ومن ثم تطور موضوع المصادرة لتكون الثقافة تعني بالكامل مديحا بالدكتاتور. التاريخ كان المستهدف الأكبر من ثقافة البعث، فإنه قد حظي بقدر كبير من التزوير وقد وظف النظام لهذه المهمة جميع الجامعات والمعاهد وكل المؤسسات العلمية والبحثية، فقد كان كل كتاب يصدر عليه أن يزور جانبا من التاريخ بما يراه الدكتاتور مناسبا، حتى لم يبقى جانبا من جوانب الثقافة إلا وكان للبعث حضورا تزويريا قويا به، فتم في النهاية للنظام الهمجي احتلال العقل العراقي بالكامل وليس الثقافة وحسب، فلم يعد هناك حق لإنسان أن يفكر بشيء ما لم يكن للدكتاتور نصيبا به، ولم يكتب شاعر قصيدة لحبيبته إذا لم يتغزل بوسامة الدكتاتور قبل أن يرى عيني حبيبته، ولم يرسم فنان لوحة إلا وكانت لصدام أو لحصان، والمقصود منه طبعا حصان صدام، ولم يصب مثَالٌ صلصاله إلا وكان في النتيجة تمثال لصدام، ولم يقرأ الأطفال حروف الهجاء كما تعلمناها، فقد أعيد ترتيب حروف الهجاء في العراق لتبدأ بحرف الصاد التي يبدأ بها اسمه الكريه، ولم ينتهي الأمر عند حد معين حتى حول ثقافة العراق ومنظومته الأخلاقية إلى ثقافة صدام ومنظومته الأخلاقية التي لا تقيم وزنا لأي شيء في الدنيا إلا لصدام وأبناءه وأبناء عمومته، فلم يعد للأخ معنى ولا للوفاء معنى ولا لأي من قيمنا الجملة معنى، فقد أبدلها بالكراهية والحقد والنذالة والخيانة لتكون هي القيم الأسمى في مجتمعنا العراقي. هل حقا يريد شاعرنا الدفاع عن هذه الثقافة؟! ويخشى أن يدمرها الاحتلال؟! وأخيرا يستنجد بفرانسوا ساغان! عجيب!! وهل من وجه للمقارنة بين ما جرى في الجزائر وما جرى ويجري في العراق؟ وهل دافع يوما ما ساغان عن الرذيلة؟ ما بالك والنظام والهمجي البهيمي وصدامه كانوا مسلة الرذائل الأعلى عبر تاريخ البشرية! كان الأجدر بشاعرنا أن يراجع دواوينه ويواجه الأخضر بن يوسف أو حمدان الذين قاوما احتلال الفكر العراقي، فما الذي كان يبحث عنه حمدان ولم يجده اليوم؟ وما الذي فعله الأخضر بن يوسف لكي يتنكر له الشاعر؟ الأول كان محكوما عليه بالموت وعليه أن يمنح الحياة للآخرين، أما الثاني فقد ألقوا به في المهاجر الموحشة، ومع ذلك بقي أخضرا لشحنة الأمل الكبير في نفسه، وعرفت ساغان كما عرفت الإثنين، فلم أجد منهم واحدا يمجد ثقافة القتل والسجون والتعذيب والتزوير والمصادرة والاستهانة والاستباحة، لذا مازالت حيرتي كبيرة للحد الذي جعلني أشك بكل ما عرفته عن ألائك المساكين، فهل حقا إن الأخضر وحمدان والشاعر وساغان غير ما أعرف وكنت مخدوعا بهم؟ ليتني أكون على خطأ. يقول شاعرنا " الواقعُ أن الوضع الاستعماري يسبب توقُّفاً للثقافة الوطنية في كل مجالٍ تقريباً. الثقافة الوطنية تحت الحكم الاستعماري هي موضعُ تساؤلٍ، ينبغي تدميرها بشكل منهجيّ. وهي تمسي، سريعاً، ثقافةً محكومةً بالســرِّيّــة." هل حقا ما نراه الآن توقفا للثقافة الوطنية مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سقوط الصنم؟ وهل كان هناك ثقافة غير ثقافة الدكتاتور؟ لو لم نكن عراقيين لصدقنا! ولو لم يكن شاعرنا مطاردا لأنه مثقف لصدقنا! ولو يتحول صدام الدكتاتور، ذات نفسه، إلى كاتب للقصة وناظم للشعر وينشر من سجنه ما يفكر به لصدقنا! ولو لم يكن في العراق أكثر من مائتي صحيفة الآن وأكثر من عشر محطات فضائية وعشرات الإذاعات لصدقنا، ولو لم نسمع آراء الجميع في العراق لصدقنا! ثم أي ثقافة وطنية قد توقفت ولم نسمع بها؟! وهل إن الشاعر لوحده من شاهد توقفها ونحن مازلنا غافلين؟! حقا إن ما توقف هو استفزاز الشعب بنصب التماثيل لصدام أو رسم اللوحات الفنية له، ولم يعد هو اللازمة لكل حديث، ولم تعد الصحف تضع صورة له كبيرة على الصفحة الأولى من كل طبعة. لقد عاد العراقي يبحث عن قيمته الاجتماعية التي قتلها النظام البهيمي بشكل علني وليس سريا، وهذا ما نعرفه، ونعرف أيضا ليس هناك مثقفا يواجه واحدا من خيارين إما الموت أو المهجر القسري، ولم نرى مثقفا سجينا في العراق الآن، فأي ثقافة قمعها المحتل؟ بالرغم من أني أريد له الرحيل لكني لم أرى أو أسمع بأي شيء يمس الثقافة التي يبكي عليها شاعرنا ويستنجد بالأموات من أجل إنقاذها!!!!!!!! بالغم من أنه يعترف أننا تمسكنا بثقافة الوطن الحر، لكنه بذات الوقت يرى أننا مندحرون تاريخيا، فهو يقول "الاستمرارُ في متابعة أشكالٍ ثقافيةٍ محكومةٍ بالانطفاء، هو نوعٌ من التمسُّك بالوطنية، لكنّ هذا لن يقدِّمَ كثيراً، فهو تشبُّثٌ بالنواة الصلبة لثقافةٍ تغدو أكثرَ فأكثرَ، جامدةً، ذاويةً، خاويةً." وهذا الاندحار حقيقيا إلى حد ما لو كان من يسميه محتلا سيبقى، ولكن قالها قبلي وقبل شاعرنا ذلك الشعب بحسه العفوي، "أن دعونا ننتهي من احتلال نظام البعث الهمجي البهيمي ومن ثم أمر المحتل الأجنبي سيكون سهلا، وسوف نتعامل معه حتى يعود الوطن حرا"، كانت هذه هي إرادة الشعب الذي يتنكر له الشاعر، وهذا ما شاهده حتى البصير، فهل يرى شاعرنا أن الشعب سوف لن ينتصر في نهاية المطاف وإن المحتل سيبقى للأبد؟ أليس من السخف أن تغدو ثقافة الرفض والخصومة مع البعث والدكتاتورية والطائفية والعنصرية، أن تغدو ثقافة جامدة، ذاوية، خاوية على حد تعبيره؟! وهل تحولت يوما ثقافة رفض النازية والفاشية يوما ما إلى ثقافة جامدة وذاوية وخاوية؟ إن ما أعرفه عن شاعرنا أنه يستطيع أن يرى المشهد من جميع جوانبه، لأنه يتمتع بهذه القدرة حقا، لكن ما أراه الآن أمر مختلف تماما!! الحيرة من أمر الشاعر ليست جديدة، ولكن لابد يوما ما سوف تتكشف حقيقة المواقف، فكل ما نملكه هو قدرتنا على القراءة والفهم وحتى القراءة لما بين السطور، وهذا ما لا نشك به، وما لا نشك به أيضا هو أننا مثقفين حاذقين كما عرفتنا قواميس اللغة.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |