هدية، وللمحبين، فقط، في عيد الحب:
لا الجاهُ لا الأَشياءُ تُغريني إلاّعُيونُك إِذْ تُناديني
لا بيننا وَعدٌ ولا صلةٌ لَكنْ عَشِقْتُكِ قبلَ تَكويني
تأتي الأعياد لتكسر قواعد الملل، والزمن الرتيب، ولحظات القرف والاشمئزاز، والقهر المرير الذي يمر به الإنسان. والعيد هو يوم استثنائي، بارق غير عادي، وهنيهة خاطفة وعابرة. وفي جميع دول العالم، هناك أيام معينة يحتفي الناس بها، ويميزونها عن باقي الأيام، لما لها من وقع، وذكرى، وأثر طاغ في نفوسهم يكتسب أحيانا صفة القداسة. وتترافق هذه الأعياد في كل مكان من العالم مع طقوس تضفي عليها أوانا من الإثارة، والتجديد، وحتى الغرابة والجمال أحيانا. ومع تقدم العولمة وسقوط الحواجز بين الناس صرنا نسمع عن كثير من الأعياد، أو الأيام الجديدة، وحتى المقدسة، التي لها طابع خاص عند بعض الشعوب والناس.
وتتفاوت هنا ردود الأفعال، ولا سيما في هذا الجزء المضطرب المائج، من العالم حيال هذه المناسبات بين رافض، ومستنكر، ومستهجن، ومكفّر، ومتفهم، ومرحب، أو ساهم، ولا مبالٍ. ومهما تكن هذه الردود والمواقف ومدى صحتها، من عدمه، فعلينا الاعتراف بحقيقة واحدة، وقد تكون مُرّة لـ"البعض"، بأنها موجودة. وتنتشر هذه المناسبات، وتتقدم يوميا، مع تداعي الحواجز النفسية، وتطبيع التابوهات والعادات بين الشعوب والأقوام. ولن يستطيع أحد وقف زحف هذا المد التواصلي بين شعوب الأرض، وأيا كان. والآية الكريمة التي تشير إلى ما يشبه الأمر السماوي، والوصية للتواصل، والتعارف، لا التعارك، بين "الشعوب والقبائل"، كفيلة بالرد على كل من يحاول وضع العصي بين عجلات تسامي الإنسانية، وتوحدها، واتجاهها نحو الانصهار، في بوتقة واحدة، في يوم من الأيام. ولعل عيد الحب، أو يوم القديس فالانتين، هو واحد من أكثر تلك الأيام شهرة، التي صار يحتفى بها، في أربعة أطراف الأرض.
و لكن، وللأسف، مازال يأخذ طابع الرفض والاستهجان، وحتى التكفير هنا، في هذه الأصقاع. وهناك من لازال لا يعترف، ويجرم الحب، ويزدري الفرح، ويمنع الأحبة من اللقاء، ويفرض مراسيم حظر تدفق العواطف، ويمنع تجول الأفكار، ويكبت المشاعر، ويحاكم الابتسامات. ومن هنا تكثر، في كل سنة من السنوات، وفي هذا اليوم بالذات الدعوات المطالبة بإنكار هذا اليوم وتجاهله كليا، لا بل يتم، أحيانا، توجيه تهديدات لكل من يحاول أن يوليه أي اهتمام أو اعتبار. ولسنا هنا أبدا في الجانب الديني، والميتافيزيقي من الموضوع، الذي لا نحاول أن نفتي فيه، أو نقترب منه مجرد اقتراب، ونتركه، احتراما، ودوما، لأهل الاختصاص. كما لن نسعى لمقاربة الموضوع من وجهة نظر مادية، حسية، وغرائزية بحتة، "انحلالية" كما يحلو للبعض تصوير هذا اليوم، على الإطلاق. ولكن يحق لنا أن نسأل، وبعيدا، عن فالانتين، وأبي فالانتين ومعه كلاوديوس رمز الكراهية، والظلم، والاضطهاد، ما المانع أن يحب الناس بعضهم بشكل عام، ويتآخون، في إنسانية واحدة، بعيدة كليا، عن كل التقسيمات، والتطييفات، وعمليات الفرز العنصرية الأخرى، التي تولد الكراهية والحقد والبغضاء، ولِمَ لا يُنظر للإنسان كقيمة مجردة، مثلى، سامية، وراقية، بغض النظر عن الدين، والقومية، والملة، واللون، والطائفة، والعشيرة، والحزب، والاتجاه السياسي، والانتماء، فالجميع، في النهاية، شركاء في المصير الإنساني الواحد الذي ينتظر البشرية جمعاء، ولا يفرق، أبدا، بين هذا وذاك.
إن رمزية يوم فالانتاين، وبعيدا عن حَرْفِيَتِها، وجغرافيتها التي تثير لدى "البعض" التوجس، والارتياب، تتمثل، وببساطة، بصفاء القلوب، وتحدي قانون البغضاء، وبتلك الدعوة الصادقة للحب العام، وليس بمفهومه الحسي الوضعي المادي المجرد من الأخلاق. فهل تعتبر الدعوة للحب والتفاهم كفراً، و إهانة للمشاعر، وتطاولا على المقدسات؟ وهل هناك مقدسات، على العكس من هذا، ممكن أن تدعو للكراهية مثلا؟ ألا بئس أية مقدسات لا تدعو للحب، والوئام بين الناس. أم هو تجسيد آخر، وبامتياز حصري، لظاهرة احتكار، ومصادرة كل شيء، وليس الحب سوى شيئا تافها من بين هذه الأشياء المختطفة بالجملة؟
لقد جُرِّبت الحروب، والمنازعات، والمشاحنات، والمطاحنات، والتصفيات، وأُشْعِلت الكثير من الصراعات العبثية، من أجل أن يعود الجميع، لاحقا، صاغرين أذلاء، وباحثين عن قواسم مشتركة، لطاولة المفاوضات. فلِما لا يَتُم الذهابُ إليها دون إراقة نقطة واحدة من الدماء؟ إن جميع الرسالات، والأديان السماوية تحض على الحب والتآخي والسلام، ولكن المشكلة، دائما، في تجار الحروب، والموت، والأديان الذين لا يروق لهم أن يتآخى بنو الإنسان، حيث لن يكون هناك مبرر لوجودهم، على الإطلاق.
والظاهرة الأسوأ، من هذا وذاك، هو استغلال الأعياد، والمناسبات الإنسانية الأخرى، و بشكل تجاري، ولتحقيق مكاسب مادية، تُفرّغُ هذه الأيام الطيبة، والجميلة من مضمونها الإنساني، حين يدخل التجار على خط كل شيء، وتُقدم العروض للتلاعب بمشاعر، وعواطف الناس، ولاسيما من الشركات الاحتكارية الكبرى، والتروستات، التي لا تتوقف عن مص الدماء، حتى في أيام الحب، والأعياد.
لِمَ لا يُجرَّب الحب، والتسامح، والإيثار، والغفران يوماً واحد في العام، ولا ضير من العودة، بعد ذاك، للديدن السابق، والعهد الأول، في الجنون والأنانية والهذيان والفلتان، وكما هي الحال دائما، وعندها فقط، يمكن، أن، تتم المقارنات، وتجري المفاضلات، وكم سيكون هناك من عجائب، ومفارقات، ومفاجآت؟ إنها دعوات للحب، والـتآخي، والتآلف، والتواصل بين الناس وليس مكيدة، ولا دسيسة، ولا مؤامرة للقتل، والثأر، والانتقام، وسفح الدماء كما نراه جهاراً، نهاراً، وعلى رؤوس الأشهاد، وفي غير مكان، وصار جزءاً، وتقليدا عادياً في الحياة.
هل سيسمح، فقط، بممارسة الحب بمعناه الإنساني العام والالتقاء بين الناس، حين يكون هناك تسامح عام، وحين تُحرر العقول، وحين يُسمح بممارسة حرية التعبير، وتدفق المشاعر والأحاسيس والعواطف وتلقائية الكلام بدون حساب ورقباء، هنا وهناك، وحين تقدس المشاعر، وتصان الخلجات، وتُحترم المبادرات الفردية، وتُوزع الثروات بشكل عادل بين الناس ، ويُجرم النهب، والتمييز، والظلم، والاستغلال؟ أعتقد جازما أن كل هذا، وذاك مرتبط بعضه بعضاً أيما ارتباط، وليس كفرا، وبدعة، وضلال. فوحده كلاوديوس وذريته، ونسله من الأشقياء هم الذين يحاربون الحب، وكل معاني الإنسانية الأخرى السمحاء.
ومن كل عاشق صب، ومحب، وصاحب قلب كبير كفالانتاين، نقول للجميع جعل الله أيامكم كلها حب، وأعياد.
وكل فالانتاين، وأنتم بخير، ونعيم، وحب عفوي عام، أيها الأحبة الكرام.