|
من البديهيات التي ليست بحاجة إلى إثبات هو أن أمريكا لم تأتي للعراق لكي تقيم نظام ثيوقراطي، ولا أن تبقي على نظام البعث الذي سعت طويلا لإسقاطه بالرغم من أنها هي من أتى به. من قبل أن يسقط نظام الطاغية صدام كانت هذه البديهية هي الأكثر تداولا، بالرغم من ذلك بقيت جهات كثيرة تراهن على هزيمة هذا الحشد الدولي بقيادة أمريكا في العراق، والبعض الآخر بقي يراهن على إمكانية مصادرة هذا النصر لمصلحتهم، منهم إيران والدول العربية وجميع الكيانات السياسية المرتبطة مشاريعها بهذه الدول. منذ أن ظهرت نتائج الانتخابات الماضية بداية العام الماضي2005، والتي أفرزت ذلك الفوز الكبير لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، بقيت أمريكا تعمل بجد ومثابرة على مشروع بديل يحبط آمال هذه الأحزاب بإقامة نظام إسلامي. كان السلاح الذي استثمرته الأحزاب الإسلامية لصالحها بالوصول إلى هذه النتيجة هو الخوف الشعبي من عودة البعث للسلطة ممثلا بإعادة تشكيل الجيش والقوات المسلحة القديمة، وهو ما يعتبر أيضا قاسما مشتركا مع السياسة الأمريكية في العراق، من جانب آخر كان القوى السياسية التي تسعى لإعادة البعث للسلطة بدعم من الدول العربية تخشى من توسع إيران في المنطقة من خلال إقامة دولة إسلامية في العراق، وهذه الخشية تعتبر أيضا قاسما مشتركا بين الدول العربية مع أمريكا، لذا بقي الجميع يعملون على إفشال المشروع الأمريكي بإقامة نظام ديمقراطي تعددي في العراق، وبذات الوقت بقي أطراف النزاع يستعينون بأمريكا في إسقاط مشاريع الطرف الثاني، كل ذلك جرى ومازال يجري على حساب الشعب العراقي، حيث يعتبر هو الخاسر الأكبر من هذا الصراع العجيب على أرض الرافدين. ومن البديهيات المعروفة أيضا هي أن أمريكا قد تقبل البعث لكن بقيادة مختلفة، لذا دعمت شخصيات علمانية معروفة بانتمائها للبعث، لكنها لا يمكن إن تقبل بأي حال من الأحوال إقامة دولة ثيوقراطية في العراق بالرغم من أنها لا ترغب أن تهتز صورتها أمام العراقيين والعرب الذين فتحوا عيونهم على المشهد العراقي بالكامل ليراقبوا كل صغيرة وكبيرة فيه، حيث أن وقوفها بجانب المشروع البعثي يعني انحيازا في الوقت الذي تدعي فيه الحياد بما يتعلق بخيارات العراقيين. بكلمة أخرى إن ما تفعله أمريكا هو حقا انحياز غير معلن للطرف العربي والذين يدعمون مشروع إعادة تأهيل البعث في العراق، لذا دخل الطرفين في تحد واضح المعالم منذ ظهور نتائج الانتخابات الأولى ولحد الآن، خلال هذه الفترة أوصلت أمريكا آلاف الرسائل لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي مضمونها ""أن البديل لدولة ثيوقراطية في العراق أو أي جزء منه هو عودة البعث عدوكم اللدود، لذا ينبغي التخلي عن مشاريع إقامة دولة من هذا النوع، ولا ينبغي أن تأخذكم حالة الغرور رغم تفوق الشيعة عدديا في العراق""، لكن الإصرار على إقامة هذه الدولة كان عجيبا ولم يكترث أي من هذه الأحزاب إلى تلك الرسائل. وهكذا فتحت أمريكا كل القنوات للحوار مع دول الجوار والمعارضين للاحتلال وحتى المسلحين المتمردين على السلطة من فلول البعث عبر قنوات عدة، وفي العلن تقريبا، فتحتها منذ ظهور نتائج الانتخابات الأولى بداية العام الماضي وقد حققت الكثير من مشروعها في نهاية العام، وربما هي الآن جاهزة لتقديم الرد العملي على الإسلام السياسي. لم يكن انخراط أبناء المنطقة الغربية في العملية السياسية ناتج عن قناعة بهذه العملية وذلك لأنهم مدركين استحالة حصول حالة التوافق التي ينادون بها، لكن بالتأكيد كان للأمريكان دورا كبيرا في إقناعهم بالمشاركة من خلال وعود قدمت بشكل مباشر أو عبر القنوات العربية بأنها ستضمن هذا النوع من التوافق، وما زاد من زخم العملية وعود المشاركة الواسعة بالمناصب السيادية وإمكانية تحجيم التيار السياسي الشيعي من خلال آلية محددة مشروطة بتعاونهم وانخراطهم بالعملية السياسية، وقد نجحت أمريكا بهذا المسعى إلى حد كبير لحد الآن. عشائر الدليم لم تكن بعيدة عن عملية التسوية الأمريكية، فقد انخرطت بها قبل غيرها لأنها كانت بالفعل قد طفح بها الكيل من اعتبار مدنهم وقراهم، بل وبيوتهم ملاذا آمنا للمسلحين العرب والعراقيين من فلول النظام البعثي، مما جعل من منطقتهم الأكثر استهدافا من قبل الجيشين الأمريكي والعراقي الجديد، هذا إلى جانب ترسخ القناعة باستحالة عودة النظام السابق، أضف إلى ذلك أن عمليات الأعمار للعراق قد بدأت فعلا رغم التهديدات الجدية من قبل المتمردين، إذا ستكون مدنهم عرضة للتهديم المستمر وأبناءهم وقودا لهذا التمرد قتلا أو اعتقالا في الوقت الذي سوف تتمتع به مدن المناطق الأخرى بفرص العمل الجيد والبنيان والأمن. كل ما تقدم يعتبر أسباب موضوعية لانخراط هذه العشائر في العملية السياسية، وهكذا وقعت هذه العشائر اتفاقيتها الشهيرة مع الحكومة والأمريكان لطرد أعضاء القاعدة، كان في هذه المرحلة قد بلغ الكثير من تنظيمات البعث إلى قناعة مشتركة مع مكونهم العشائري، فانخرطوا مع هذه العشائر في عملية مطاردة أنصار القاعدة وطردهم من تلك المناطق، فقد كان هذا التوجه من قبل بعض البعثيين وانخراطهم في العملية ليس مجرد حالة غضب أو رد فعل لحادثة تفجير أو مقتل أحد الشيوخ كما حاولت بعض وسائل الإعلام تصويرها، لأن مثل هذه الحوادث كانت مستمرة ولم تتوقف منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن، حيث كانت إحصائيات العام2004 تؤكد أن أكثر من90% من العمليات كانت تجري في تلك المناطق، وإن ما يقرب من70% من ضحايا تلك العمليات من أبنائها، ولكنها لم تتوقف عن العصيان المسلح وتلقي بالسلاح، لذا نستطيع القول إن الوعود الأمريكية كانت ذات أثر كبير بهذا التحول واستمرار المفاوضات مع باقي فصائل المتمردين سوف يتحقق المزيد من النجاح لهم. بدأت العملية وكأنها فصل طرفي التمرد عن بعضهم، ذلك التوأم السيامي الذي يدعى جزافا بالمقاومة، أي فصل الأجانب من تنظيمات القاعدة عن تنظيمات البعث الحاضن الحقيقي للقاعدة، واستجاب البعث طبعا كعادته ليغدر بأصدقاء الأمس، فجعلهم كعصف مأكول، حيث قتل من قتل، واعتقل من اعتقل أما الباقون فقد هربوا إلى ملاذات لم تعد هي الأخرى آمنة كما كانت قبل بضعة أسابيع، وتشكلت الشرطة المحلية في الأنبار على أن ينسحب الجيش الأمريكي بعدها من المدن في المحافظة، وحذت المحافظات الأخرى في المنطقة الغربية حذو الأنبار، وحتى عشائر محيط بغداد هي الأخرى بدأت بالتوافد للانضمام للعملية السياسية. مؤتمر القاهرة الذي تأجل إلى وقت محدد خلال حزيران لم يعد ذو جدوى وسوف لن يحقق أكثر مما تحقق، لذا تم تأجيله إلى أجل غير مسمى لأن العملية السياسية التي يهدف لها من حيث الأساس ماضية بمنتهى القوة والثبات، فما الداعي لعقد المؤتمر مادام الأمر كذلك؟ أما الأهم من هذا وذاك هو زيارة ديك تشيني لبعض الدول العربية وطلب أمريكا إبدال القوات الأمريكية بأخرى عربية، حيث تعتبر هذه المسالة في غاية الأهمية لما تحمله من تهديد صريح بالنسبة للإسلام السياسي الشيعي، في الوقت الذي مازال يرقص ابتهاجا بالنصر الكبير. في الحقيقة لم يعد الأمر مجرد تهديد، فزيارة رايس القادمة للمنطقة حاليا تؤكد جدية الموضوع وإنه ماض إلى غايته دون تردد هذه المرة. فالرسائل التي سربتها وسائل الإعلام المقربة من مصدر القرار العربي تقول أن قوات مجلس التعاون سوف تتولى أمر البصرة بعد رحيل الجنود البريطانيين، وإن قوات مصرية ومغربية وجزائرية سوف تحل محل القوات الأمريكية التي سوف تنسحب من المنطقة الغربية خلال هذا العام، وما هو أهم من هذا وذاك هو أن البرلمان العراقي بتركيبته الجديدة التي تمخضت عنها الانتخابات سوف لن يستطيع الوقوف بوجه هذه الرغبة الدولية والتي تجري تحت مظلة الأمم المتحدة والجامعة العربية، وهناك حديث يدور في سوريا من أنها هي الأخرى سوف تساهم بقسط من هذا التواجد العربي المشترك، كل هذا وإيران ظهير أحزاب الإسلام السياسي الشيعي محاصرة من قبل العالم أجمع بعد فتح ملفها النووي وتقديمه للأمم المتحدة. جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال الإسلام السياسي الشيعي بالسيطرة على الأغلبية البسيطة على البرلمان، وبانضمام الشيعة العلمانيين إلى جانب أبناء المنطقة الغربية أضعف التفوق العددي الشيعي فهناك الآن كتلة وصل عددها إلى88 إضافة إلى كيانات أخرى صغيرة لا ترغب بسيطرة الإسلام السياسي الشيعي على العراق ولا على جزء منه. وبالرغم من تأجيل مسألة كركوك إلى هذه الفترة من أجل ضمان الموقف الكوردي إلى جانب كتلة الائتلاف وإن عقدة العرب في المنطقة الغربية هي مسألة كركوك، لكن الكورد لم تعد لديهم خطوط حمراء كما كان الأمر في السابق، فالمؤتمر الصحفي للرئيس الطالباني قد وضع النقاط على الحروف وانتقل الحديث من مستوى التكهنات إلى مستوى اليقين والمواجهة المباشرة، ذلك لأن من كان يقف بجانب الرئيس هو زلماي خليل زادة الذي يعتبر مهندس العملية الأمريكية التي تهدف إلى تحجيم النفوذ الشيعي على البرلمان والحكومة، فما هو شبه مؤكد الآن، هو أن الإسلام السياسي الشيعي يستحوذ فقط على130 مقعد بعد إضافة رساليون للائتلاف ومن يقف بوجه أحزاب الإسلام الشيعي هو كل ما تبقى من العدد الإجمالي لأعضاء البرلمان. وهكذا قضت أمريكا على أسطورة التفوق السيطرة العددية على السلطتين التنفيذية والتشريعية، فما الذي بقي أمام أحزاب الإسلام السياسي الشيعي فعله من أجل تحقيق الحلم الكبير المتمثل بإقامة دولة ثيوقراطية؟ ربما يعتقد بعض ساسة هذا التيار أن ضمان فدرالية الجنوب يمكن أن يكون الملاذ الأخير لمشروعهم السياسي، إذ بعد التأكد من استحالة تحقيقها على مستوى العراق بالكامل يمكن إن تكون لإقليم الجنوب الفدرالي، لكن حتى هذا الملاذ لم يعد آمنا، لأن الإسلام السياسي الشيعي لم يعد إلا أقلية في البرلمان مقابل حشد كبير يقف بالضد.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |