لاشك أن الرسوم كانت بحق عملا ناقصا، وخارجا عن الأخلاق، ومدانا، أثار حفيظة ومشاعر الكثير من المسلمين عبر العالم. ولكن وعلى هامش هذه القضية الحساسة برزت الكثير من القضايا، وكان هناك المزيد من الأوجه التي لا بد من إلقاء بعض الضوء عليها.
فلم يتوان بعض المسلمين بالرد على الرسوم المسيئة للرسول بتلك الطريقة الفجة والبدائية، وإن كان من حقهم الرد بأسلوب أكثر اعتدالا وحكمة وتحضرا، وجسده بعضهم الآخر للحقيقة والتاريخ عبر مظاهرات سلمية، والدعوة لمقاطعة اقتصادية، أو حوار بين الحضارات. ومهما يكن من أمر، فلقد ساهمت الحملة الأخيرة، وبالشكل الذي حصلت به، ضد الدانمرك فقط في إظهار مدى الهوة التي ما تزال قائمة بين مختلف الثقافات والحضارات، وأججت مشاعر مختلف الفر قاء المعنيين بشكل لم يسبق له مثيل، وأن الطريق ما تزال طويلة، وشاقة أمام تعايش، وتناغم فكري، وتفاهم ثقافي في ظل هذا العمق من التناقضات، والاختلاف الكبير في النظرة للكثير من المسائل والآراء. والموضوع، بحد ذاته، ليس موضوع صراعات حضارات، وثقافات وتباين أفكار، بقدر ما هو تواضع بعض الثقافات، والآفاق المعرفية الحضارية لدي بعض الشعوب، وعجزها، بالتالي، عن اللحاق بالركب، وتقبل الكثير من المستجدات والتبدلات العميقة التي تجتاح الكون من أقصاه إلى أقصاه، ورغبتها الدائمة، بسبب عدم امتلاك آليات حديثة، في النكوص بعيدا للتاريخ لاستلهام أنماط حياة اجتماعية، ونظم سياسية عفا عليها الزمان، دخلت في نطاق المقدس الذي لا يقبل الجدال عند بعض الناس، وهذه هي إحدى أهم أسباب تفجر الصراعات بين الفينة والأخرى، وبقاء الوضع متوترا وقابلا للاشتعال.
وللدخول في هذا الموضوع الشائك لا بد من التذكير، دوما، أن هناك فرقا واضحا بين الدين الإسلامي السماوي، وتدين الإسلام السياسي، الذي يمثله بعض الشخوص، والجماعات، والذي هو محور حديثنا عن هذه الظاهرة. وهو ذلك التيار الديني الذي يخلط بين الدين والسياسة ويحاول الجمع بينهما، ويستغل أي حدث لتحقيق مكاسب سياسية، وينصب من نفسه قيما، ووليا، ووصيا على دين الله، ويحتكر الدين، ويجير شعاراته لغايات وأهداف دنيوية. أما ترويج مقولة أن هناك هجوما على الإسلام، أو استهدافا له، فما هو ألا "فزاعة" سياسية ودينية، للمحافظة على مواقع، وتبني مسؤولية الدفاع والوصاية على الناس، تسعى من خلاله هذه الجماعات لتحشيد الناس وراءها في معركتها المعلنة لإقامة كيانها وغيتوها السياسي الخاص بها والمعزول عن العالم، كما يُصرح به على رؤوس الأشهاد. إلا أنه لا بد من الاعتراف بأن هناك تقدما، ونجاحات، واختراقات سياسية كبرى ولافتة للإسلام السياسي في أكثر من مكان، وإن الانتصار الكاسح لحماس وإخوان مصر في الانتخابات التي جرت مؤخرا لهو أكبر دليل على أن الآخر السياسي هو المستهدف وليس هؤلاء، فيما يتحفزون، ويتحينون الفرصة، في أكثر من بلد آخر، للانقضاض على السلطة، أما نفوذهم وتغلغلهم وسيطرتهم على الشارع السياسي والاجتماعي في أماكن متعددة، فأمر لا يحتاج لأي كلام أو برهان. والإسلام السياسي، مدعوما بغطاء شرعي من الأنظمة وقوة البترودولار، هو في حالة اندفاع وليس نكوص، وضعف, وارتداد على الإطلاق. وإن ما يروجه بعض غلاة التدين السياسي عن خطر داهم يهدد الإسلام هو مقولة مغلوطة ومرفوضة دينيا، حيث أن هناك آيات بينات تظهر أن الله هو الذي أنزل الدين وهو الذي نصره، وليس بحاجة لأحد من سكان الأرض لكي يقوم بهذه المهمة السماوية:"{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9)، (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) الأنفال.
وبعد أن تمكنت هذه القوى الغيبية في مجتمعاتنا من فرض رؤاها وأنماط سلوكها المفرطة في الغلو والتطرف والانغلاق، وعطلت الفكر، والعقل، والحياة بشكل عام، وبعد أن انصاعت لها النظم الحاكمة، كليا، في حلف غير مقدس، تحاول أن تبسط سيطرتها، وتمد من سلطانها إلى خارج حدودها، وتخرج من قمقمها مرة واحدة، مستغلة تلك المكاسب والانتصارات، وحالة انعدام الوزن والفراغ الفكري السائدة هنا. ها هو الغرب العلماني مستهدف الآن. ذاك الغرب الذي حقق قفزات حضارية وكونية إنسانية كبرى، وبغض النظر عن بعض الممارسات السياسية المخزية هنا وهناك، أحيانا، واستقبل، وآوى ملايين المهاجرين المسلمين، والمهجّرين من الدول الإسلامية بسبب الاضطهاد السياسي والديني والعرقي والقومي والإثني الذي يتعرضون له، والذي لم تستطع الكثير من الدول الإسلامية، حتى الآن، تجاوز هذه المعضلة والخروج منها. هؤلاء المهجرين الذين سيعتبرون ضحايا, وفي حالة تهديد قصوى لو انصاع الغرب العلماني لأمراء الإرهاب الفكري، وقضاة محاكم التفتيش الجدد.
الإسلام كقيمة حضارية، ورسالة سماوية، وممارسة أخلاقية على الأرض، مغيب كثيرا على الأرض في معظم دول العالم الإسلامي، حيث أن مسائل كثيرة ما تزال عالقة كالتجنيس، وسحب الجنسية، الأمر المحرم والمجرم في الدول العلمانية، لكنها في معظم هذه الدول المضطربة، هي من القضايا الشائكة، والمعقدة، وبدون، حل، علما بأن لا أحد يتظاهر أو ينتفض من أجلها أبدا، وكان الإنسان في آخر الحسابات على. كما لا تعترف معظم هذه الدول، عمليا، بمواثيق الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان، بل حتى لا تحترمها، ولا تأبه لها، ناهيك عن حفلات الاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ونزع الجنسية المزاجية عن سكان البلاد الأصليين ومنعها عن الكثيرين، وحرمان الكثيرين من حقوقهم الأساسية وتهجيرهم، والتمييز العنصري، والممارسات الأخرى التي يندى لها الجبين، كل ذلك، طبعا، لا يدخل في نطاق المقدسات أبدا. و لا أدري متى سيندرج الإنسان الذي كرمه الله، وكل الديانات، كقيمة سامية ضمن المقدسات، ويصبح الانتصار له، وشمله بالعدل، والمعروف، والإحسان واجبا دينيا من بين الواجبات.
إن تقدم العولمة وتغير المفاهيم، وحدوث انقلابات جذرية في الكثير من مناحي الحياة، والقيم والمبادئ السائدة بدا كناقوس خطر، ونذير شؤم للكثير من الحكومات المتسلطة التي ما تزال تعيش في العصور السياسية الجليدية والمتجمدة، ومن هنا كان لا بد من التحرك للعودة إلى بعض المواقع التي بدأت تخسرها شيئا فشيئا مستغلة هذه الحادثة وعبر هذه الأدوات. ومع استمرار تقدم العولمة بهذا الشكل، فإنها ستجد نفسها، ربما، ويوما ما، وجها لوجه، أمام العدم والفراغ.
إن هناك محاولة مستميتة ظاهرة لفرض الإرهاب الفكري، ومحاربة كل تجديد يقلص من سلطاتهم، ويحد من قدرتهم على التحكم بالناس. كل ذلك باسم السماء لإنتاج مجتمعات خائفة، مستسلمة، طيّعة وسهلة القياد كما يريد أولي الأمر الأبرار، والتخدير بشعارات مفرغة من أي قدرة على إجراء محاكمات عقلية ومنطقية تدفع باتجاه تحرر عام، ينعكس ازدهارا على كافة صعد الحياة الأخرى. ولم تعرف أوروبا تلك الطفرة الحضارية والإنسانية الكبرى التي تنعم بها إلا بعد أن خلعت أردية الجهل، والتسلط، والخرافة، والهذيان.
هناك أزمة في عدم فهم المتغيرات المصاحبة للثورة التكنولوجية، والمعلوماتية، وعدم قدرة على مواكبتها والتعايش معها، وبالتالي وجود صعوبة في التكيف مع أنماط التفكير والسلوك المستحدثة والعصرية وهذا بدوره يخلق إشكالية حضارية كبرى تتجلى بذاك الفارق الواسع، الذي لمسناه، في السلوك وردود الأفعال.
وإذا سلمنا، جدلا، بأن هناك محاولة تستهدف الإسلام انطلقت من الدانمارك، فلقد كان هناك سابقا، أفعال أكثر سوءا وتعديا على المقدسات الإسلامية، خرجت من دول لها أظافر حادة "تخرمش"، وأنياب بارزة تؤذي و"تعض"، قوبلت بالسكون والخنوع المطلق، وتجلت في تلك الإساءة البالغة للقرآن الكريم، في معتقل غوانتانامو، ولم يحدث ذاك الأمر الشائن والأكبر حجما، والأوسع مغزى تلك الفورة العاطفية العارمة التي نمّتها، وغذّتها أنظمة، وجماعات بعينها تريد إرسال رسائلها الخاصة، وتصدير أزماتها المستفحلة، وتعليقها على مشجب الغير.
إن الدانمارك كدولة، وكنظام سياسي غير مسؤولة إطلاقا عن تصرف أحد مواطنيها كما لا يمكنها التصرف معه بنفس الطريقة الهمجية والمتوحشة التي تتعامل بها هذه دولنا المؤمنة مع مواطنيها، ولو أرادت الدانمارك، وهولندا، وأمريكا، وبريطانيا، وأسبانيا التعامل بنفس المنطق الأعوج مع هذه الدول لطالبت باعتذار، ومحاكمة معظم مسئولي، وحكام هذه الدول، التي فرّخت عتاولة الإرهاب الأسود العالمي، الذين عاثوا، ويعيثون اليوم فسادا وعربدة، وتقتيلا وإجراما في أطراف الأرض، ولكانوا مسئولين مباشرة عن كل جريمة ارتكبت هنا وهناك باسم الإسلام. اللهم إلا إذا كان هؤلاء يحاولون القول، والإيحاء بالطلب من الدانمرك بالعودة للقرون الهمجية، ومحاكم التفتيش، وهذا ما لا يتجرأ أن يقدم عليه، على حد علمي، أي عاقل في هذا العالم.
إن أخطر ما يمكن أن تقدم عليه أوروبا اليوم هو مجرد التفكير بالتراجع عن مبادئها العلمانية، والخضوع لهذا الابتزاز الإرهابي الفكري الذي سيتم من خلاله تجريم أي سلوك لا يروق لهؤلاء، وأية فكرة لا تروق لأحد من تجار التدين السياسي في كل مكان من العالم، مع الإدانة الصارخة للرسوم المسيئة للرسول محمد(ص) والتي تدخل في نطاق الشذوذ وليس الحرية مطلقا، وتحت هذا البند العريض المطاط يتم عندها إطلاق النار في عدة اتجاهات أخرى. وسينعكس هذا بالضرر لا حقا على ملايين المهاجرين الذين يتعرضون للاضطهاد السياسي والدين والعرقي، حيث يكثر القمع، والاستبداد، والاضطهاد، وانعدام أي نوع من الحرية في هذه البلدان بشكل عام، وتعود البشرية مرة أخرى لنفس النفق المظلم الذي خرجت منه من زمان، وتنعم بنتائج ذاك الخروج المبارك هذه الأيام. إن تكاتف أوروبا ضد برابرة الإرهاب الفكري ووقوفها مع الدانمارك، التي لم تذنب أبدا، والتي تتعرض للإرهاب الفكري الآن، هو موقف مطلوب بالتأكيد أكثر من أي زمان.
هل تتعرض أوروبا لنوع من الضغوط الإرهابية، والفكرية، وابتزاز تجاري، وتهديد بقطع علاقات سياسية من قبل مجموعة من الأنظمة ذات السمعة والسجل الأسود في مجال حقوق الإنسان؟ وهل هذا الواقع، لو حصل، سيقوض من مصداقية العلمانية هذا المبدأ الإنساني الذي تستظل بظله كل الشعوب ويحترم جميع الأديان؟ وهل أضحت العلمانية في خطر أمام المد الأصولي، هذه الأيام؟ إن على أوروبا أن تتوحد، وتتضامن مع الدانمرك الدولة، وليس الفرد الشاذ، للوقوف في وجه الإرهاب الفكري الذي يحاول أصحابه فرضه على هذه الدول التي تنعم بهامش واسع من حرية التفكير، وألا تخضع مطلقا لأي نوع من الابتزاز تحت شتى الحجج والمسميات، لأن في ذلك تهديد للإنسانية جمعاء.
ملخص القول، لقد حدث فعل شاذ وخارج عن المبادئ والأخلاق، وهو حالة فردية خالصة، فليس كل غربي يفكر بهذه الطريقة الهوجاء، ولا يصح أن تؤخذ أمم وشعوب وأقوام بجريرة شخص منفلت وشاذ، وتعود البشرية لسالف العهد والأوان، وهنا جوهر الإشكال، وهذا ما حصل لنا في هذه الأصقاع المنكوبة، وباسم المقدسات، أيضا حيث عطل كل شيء واعتبر بدعة وضلالة وخروج من الملة والأديان.
إن الخبث والدسيسة والمكر ينبع من المحاولات الحثيثة لفرض أنماط سلوك، وتفكير متخلف بدائي، لم يعد مناسبا على الإطلاق، في هذه الأيام، على جميع الناس، وفي مختلف أنحاء العالم.