العراق: العبور الشاق، والمخاض العسير

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

تتسم المراحل الانتقالية الكبرى التي مرت، وتمر بها البشرية على مر التاريخ عادة بتلك الهلامية، وعدم وضوح الرؤية، وغموضية الملامح، والضبابية التي تسيطر على المشهد العام. وقد عانت الكثير من شعوب العالم التي تنعم اليوم بالازدهار والاستقرار بالكثير من خصائص وملامح هذه المراحل التي تعتبر حتمية منطقية، وتأسيسية لما سيأتي من بعدها من مراحل. وتنعكس تلك الخصائص الملازمة للمراحل الانتقالية فوضى و فلتاناً أمنياً جارفاً، وربما حروباً، وتصفيات محلية. وبرؤية مقلوبة تماماً لما هو حاصل الآن، فلا يمكن العبور للضفة الأخرى، دون أثمان قد تكون مكلفة وباهظة جداً على الأوطان، وإن أي تحريك في المشاهد الراكدة سيؤدي حتما إلى اختلالات في تركيبة، ونمطية الوضع السائد، تنعكس فيما نراه من مشاهد وأحداث مأساوية، ولا سيما بعد التحرر من كثير من قيود، وضوابط المراحل السابقة الضاغطة بقوة، ولا بد من آلام مصاحبة، ومخاض عسير حين كل ولادة جديدة، وأن هناك أياد خفية تعبث بالنار، وتسرح تحت الظلام. إذ ليس من السهل البتة تغيير ملامح مرحلة سوداء كأداء بسهولة ويسر، وانسحاب تلك القوى التي تمثلها، وترك سلاحها دون مقاومة، أو تشبث بالمكان في محاولة للحفاظ على مكاسبها التاريخية التي حازتها بالترهيب والحصار.
إن السيرورة التاريخية والمنطقية للحياة هي التي ستمضي حتما باتجاه الأحسن، والأسمى، والأفضل، والأرقى وهذا هو الحال في كل مكان. فكل هذا السعار والأوار والإرهاب، والذي لا بد منه في مرحلة ما بعد أي حراك جذري عام، هو رسالة، ربما أخيرة، هدفها المعلن والواضح هو التشكيك بعملية التغيير التي بدأت، ولا شك، أنها ستمضي حتى نهاياتها المنطقية والإنسانية. والحل برأي تلك القوى هو الإبقاء على كل الهياكل، والبنى الديناصورية المحنطة التي تجاوزها التاريخ والجغرافية بمسافات طويلة قد تجعل اللحاق بهما أمر أصعب بكثير من عملية التغيير نفسها. فمن الواضح تماماً، أن قوى كثيرة، وجهات محلية وإقليمية تضررت جدا من هذا الاختلال والبركان، واستباقا لأية هزات قادمة، فهي تحاول علناً، وجهاراً أن تفشل العملية السياسية والديمقراطية التي تجري على قدم وساق في العراق الجديد، في محاولة يائسة وأخيرة لتأكيد شرعياتها الديكتاتورية، والاستبدادية، والفئوية المعزولة التي تتسلط بها على شعوب هذه المناطق المنكوبة من العالم. وهي بالتالي تحاول الإيحاء، ومن خلال الاستدلال المنطقي المكاّر لتسلسل الأحداث وعنفها، بأن هذه الشعوب، والأقوام المتناحرة، والإثنيات المتناقضة، والطوائف المتنوعة، لا ينفع معها سوى السوط، والبسطار العسكري، والهراوات الماريشالية، لتثبيت مواقعها والتمترس في حصونها التاريخية، وقلاعها التقليدية قبل أن تأتي عليها رياح التغيير التي تهب من كل حدب وصوب، كنتيجة منطقية لحركة التاريخ الكبرى، وقوة دفعها الجارفة، التي يبدو أن كثيرين لا يشعرون بها، ولا يحسون بها حتى الآن.
ولقد وجدت هذه القوى التقليدية والظلامية اليوم، في العراق الجديد المتحرر من قبضة الطغيان والاستبداد، فرصة سانحة لتأكيد هذا المقولة الساذجة والتدليل عليها بذاك الحجم الهائل من القتل والتدمير، والذي هو وجه آخر، وربما إيجابي برغم إدانته الكلية، لانعدام، ورفع القبضة الحديدية التي كانت تكتم الأنفاس، والحل الوحيد حسب المفهوم البدائي الخبيث لهذه القوى المتآكلة هو الإبقاء على هذه الأنظمة الكهنوتية القدرية التي تحكم بالحديد والنار، وتمص، بنهم ملحوظ خيرات، وثروات الشعوب والبلاد. وتحاول أن تروج عن طريق أبواقها الكثيرة، وبكثير من الغل والتشفي والشماتة، أن هذا هو ما سيحصل لو انزاحت هذه الأنظمة القدرية عن كاهل العباد. وأن النموذج العراقي قد فشل فشلا ذريعاً ولن يُصلح بأية حال، كما لن يصح أنموذجا يحتذى به على الإطلاق. وأنه في حال حدوث أي تغيير محتمل، أو مجرد الدعوة إليه هنا وهناك، لمصلحة شعوب هذه المنطقة فإن "المصير" العراقي بالانتظار، وستكون حجة "مردودة" على دعاة التغيير والإصلاح، وستجبر حينها أن تسكت جميع الأصوات المطالبة بالتغيير مخافة تكرار ما يروج له على أنه "الكابوس" العراقي، وتحاول أن تروج لهذه الدعاوي المشبوهة في كل سانحة تتهيأ لها، وتستفيد من أي حدث سلبي يخدم أراجيفها على الساح.
وفي الحقيقة إن هناك بعض الأوجه المرفوضة، ولو شخصيا، إن لجهة كيفية حدوث التغيير وأدواته وارتباطاته، أو لجهة القوى الدولية المشرفة عليه، ولكن وجهه الأجمل والأهم هو اندحار الشر الأكبر، ورمز الطغيان. هذا الاندحار الذي أصبح بارقة الأمل الكبرى حيث انعدمت سابقا مثل هذه التصورات، والخيارات، وماتت الآمال، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. وأيضا، وفي نفس الوقت، لا يخلو مشهد الأحداث اليومي من بعض المشاهد المفرطة في السلبية، ولكن هذا ليس سوى جزءاً من الصورة الكلية التي يركز عليها الإعلام الذي يعكس بمعظمه وجهة نظر النظام الديناصوري الرسمي، وأنه في المحصلة كلمة حق يراد بها باطل، غير أنه يظهر أن حدة هذا الفعل العنفي تعكس هول وعمق الصدمة التي أصيب بها الديناصوريون وهم يرون صنمهم الأكبر يتهاوى، وكبيرهم الذي علمهم السحر والعهر السياسي ينزوي في جحر الجرذان. ولذا لم يكن هناك بد من هذه "الردة" العنيفة، التي ستتراخى مع تقدم العملية السياسية وعودة الأمور إلى مجاريها بعد الوفاق الوطني العام. ومن هنا فإن أي تراجع أو نكوص عن هذا الخيار الوطني العلماني والديمقراطي، هو خسارة فادحة تمنى بها الأوطان.
لا شك لقد ظهرت على السطح قوى متباينة بعد انحسار القبضة العسكريتارية الديكتاتورية، وهذا أمر منطقي وواقع الحال في كل المجتمعات التي كانت ترزح تحت نير الاستبداد. ولا شك أيضا أن التناقض والاختلاف فيما بينها هو الأكثر منطقية، وواقعية، وحتى إيجابية، ففي مجتمعات اللون الواحد تنعدم الخيارات والسبل والاتجاهات، وحتى التناقضات التي تعتبر المحرض وراء أي حراك. ومن هنا كان ذاك السجال الطويل والشاق في العملية السياسية الدائرة الآن، التي يجب أن تستمر بالرغم من حجم السواد الذي يغلف المكان. فقد انتشرت دعوات فورية من هذا الطرف أو ذاك للانسحاب من تلك المشاريع الوطنية، ومقاطعة العملية السياسية في البلاد والعودة للمربع الأول وإلى نقطة الصفر. وهذا بحد ذاته هزيمة للمشروع الديمقراطي والوطني العراقي، إذا لا بد من دفع ثمن التحول والتغيرات. ولم تدق أبواب الحرية الحمراء يوما بغير الأيادي المضرجة بدماء البررة من الأبناء. وإن أي تراجع للوراء هو فشل وخضوع لابتزاز قوى الاستبداد والظلام. ومن يعتقد أن قوى الظلام والاستبداد سترمي سلاحها وتترجل دون مقاومة، فهو واهم تماما، ولا يقدر حجم ما تضمره من شر ونزعة للتخريب والعدوان.
لقد كانت هذه الدول والجغرافيات، تاريخيا، وعلى الدوام، مهبطا للحضارات، وملتقى للتزاوج والتلاقح بين الأفكار، ورمزا من رموز التعايش والحياة المشتركة بين مختلف العقائد الأديان، وإن كثرة وتنوع هذه الفسفسائيات، لأكبر دليل على ما تركته تلك المدنيات السالفة والأوابد الرائدة، وهذا ليس بجديد على هذه المنطقة التي عرفت كل أشكال التنوع العقائدي، والمذهبي، والإثني، والقومي. و لم يحدث هذا الجنون الطائفي، والجموح العقائدي، والهذيان الطائفي التي غذته أنظمة الفساد والإفساد، إلا بعد أن سيطر الجهلة وازدهرت ثقافة الكراهية وحقب الاستبداد. و قد عرف الناس العلمانية هنا، وطبقوها عمليا، وعلى أرض الواقع المعاش، قبل أن تكتب وتدرّس كمنهج متطور لبني الإنسان حول العالم. ولم تكن الصراعات الدموية والإجرامية سوى نتاجا لقوى البغي والشر والظلام، التي لا تنتمي لأية حضارات، على عكس ما يروج أصحابها، ومن هنا لا يمكن تصنيفها ضمن ما يسمى بصراع الحضارات والثقافات، بل فقط ضمن نزعة إجرامية للقتل والتصفيات، وشهية عارمة لرائحة الدماء.
 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com