الحراك المذهبي والسنيّة والشيعيّة السياسية

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

كنا ننتظر جميعا محرضات، ومحفزات، وحراكاً علمانيًا وليبرالياً ديمقراطياً، لكن يبدو، وبكل أسف، فإذ بنا نفاجئ بأن السنية والشيعية السياسية وملحقاتها التفتيتية، وباقي التصنيفات العرقية والمذهبية الأخرى، قد تصبح هويات جديدة في هذه المنطقة الحاملة لكل أسباب التشرذم والتفتيت والانقسام، في ظل المشاريع الديمقراطية التي تحوم، كالبوم والغربان، فوق المنطقة، ويصبح الولاء للطائفة، والمذهب، والعشيرة، والفخذ بعد أن كان سابقا للدول، والجغرافيا، والأوطان، ولا سيما بعد كل ذاك الصخب الطائفي الدموي المقيت الذي شهدناه في العراق، مالم يتصدى لهذا العقلاء. وقد تنتقل بعد ذلك عدوى الحمى الطائفية وتنتشر في عموم المنطقة، التي لا تقبل أي "هزل" أو "مزاح" من هذا القبيل وتكتنز كل أسباب الانفجار، بعد أن كرستها، وأذكتها ممارسات سلطوية فاجرة شنعاء في كل مكان.
لقد كانت أولى بوادر هذا الانتقال، ولكن بشكله الإيجابي هذه المرة، هو ذاك "الحراك المذهبي" الذي بدأه النائب في مجلس الأمة الكويتي السيد وليد الطبطبائي عبر مقال كتبه السلفي الكويتي البارز بعنوان أنا سني .. وأحب الشيعة، واثار سلسلة من المقالات، بعناوين علنية ومثيرة، ومتقاربة من حيث الشكل والمضمون، من مثل "أنا شيعي.. وأحب السنة" للسيد ضياء الموسوي، و"أنا شيعي وأحترم السنة" لخالد الشطي، و"أنا شيعي ولا أحب السنة" لعادل مرزوق الجمري. ولن ندخل في تفاصيل ما جاء في هذه الردود والمقالات فـهكذا "مكاتيب" تقرأ عموما من عناوينها، ولا تحتاج لتفصيل وبيان. ولا يهمّ أيضا الآراء المتوافقة، والمتباينة، وحتى المجاملة في الموضوع، وأحقية كل طرف بالولاء المطلق لموقعه وأيا كان، إلا أن ما يهم هو أنها تصب جميعا في بوتقة واحدة من الاعتراف الضمني بالشقاق وحتى الكراهية، في بعض الأحيان، بين الأخوة الألداء، وهو دلالة دامغة بوجود هذا الخلاف المذهبي التاريخي المستفحل بين الطرفين وما ترتب عليه من أبعاد دينية، ومضاعفات اجتماعية وسياسية على السواء. وهي، بالتالي، قد تكون بداية لتحريك واحد من أهم الملفات التاريخية التي صبغت تاريخ المنطقة، والذي كان لاحتدام الأحداث الأخيرة، وللسعار الطائفي الدائر حاليا، والخضات الدموية المتلاحقة التي أثارتها سيطرة الجهلة والمتعصبين على الشارع الإسلامي، "الفضل"الكبير ربما في التوقف عندها بهذا الوضوح، وعدم تجاوزها والقفز من فوقها، والنظر واقعيا، وعلميا، وموضوعيا لواحد من أهم المواضيع المسكوت عنها. وهي في الوقت ذاته، رد مفحم على كل تلك المجاملات والشعارات، العريضة التي تتحدث عن "وحدة الأمة"، كمشروع سياسي متجانس ومتكامل لا تعتريه أية منغصات، وكأنها أمر مسلم به، ومفروغ منه. وهذا هو الجانب المضيء في الموضوع، وليست تلك المجاملات البروتوكولية على الإطلاق. لأنه، وكما هو معلوم، وحسب النظريات العلمية، فإن تشكل الوعي هو بداية للخلاص، والشروع في التفكير بالحلول.
وللحقيقة والتاريخ، كان هناك محاولات تاريخية سابقة، ومن مراجع دينية عليا من كلا الطرفين، للتقريب بين المذاهب، ولكن يبدو أنها، قد باءت بالفشل على أرض الواقع بسبب التقادم، وعدم تفعيلها بشكل يومي، ودائم في مختلف مناحي الحياة. ولا ينكر عاقل، وبكل أسف، أن هذا الموضوع الحساس هو أشبه بصراع سيزيفي عبثي لا غلبة فيه لفريق على آخر، ولم تفلح كل المواجهات السابقة في حسمه على الأرض، ولصالح أي من الطرفين، كما لا بد من الإقرار باستحالة أن يتمكن أحد من إلغاء الآخر واستئصاله جذريا من الحياة. ويبقى الحوار، والالتقاء، وتقريب وجهات النظر هي الحلول الوحيدة والمثلى لهكذا معضلات، وعدم الاستماع لأصوات المتطرفين والغلاة هنا وهناك، لأن النتيجة واحدة في هذه الحال وهو إطالة لأمد الخلاف والصراع ليس إلا، وإذكاء لنار الفرقة والعداء. ورسالة لمن يعتقد بأن الروح قد تسحق، أو أن يسلم أحد بالهزيمة، يوما ما، ويرفع الرايات البيضاء، وعلى العكس فإن المغالاة بالفعل، ستؤدي إلى مغالاة وتطرف مماثل في ردود الأفعال.
والمطلوب بنفس الوقت ألا يكون هذا الحراك مؤقتا فرضته دموية الأحداث، أو بداية لـ"تقية" سياسية ودينية جديدة، ريثما تمر العاصفة الطائفية وكفى الله الطائفيين شر اللقاء، بل أن يحمل صفة الديمومة، وأن يكون إدراكا من المعنيين مباشرة بهذه الأمور، باستحالة المضي قدما حتى النهاية في هذا الطريق الوعر المحفوف بكل أنواع المخاطر ومنعكساتها دينيا، ووطنيا، واجتماعيا، وأن الغلبة لم تكن ولن تكن لتيار على حساب آخر ولو تسلح بآلاف النصوص، والشواهد السماوية، وقام بمئات العمليات الانتحارية، والإجرامية، والاستعراضات الدموية. وأن الوفاق والتسامح والوفاق هي العناوين الأبرز لبناء أوطان قوية متجانسة تتعايش فيها كل العرقيات، والإثنيات، والطوائف، والمذاهب، والأديان.
لا يمكن أن تحل الأمور عبر خطاب بلاغي وإنشائي عاطفي. وتلك الحساسية المستفحلة، والتوجس المتبادل، لا تزيله بضعة مقالات متناثرة هنا وهناك، فرضتها الفورة العاطفية، والتأثر الإنساني لمأساوية الأحداث وعنفها وضراوتها، بل يتطلب جهدا مشتركا وصادقا، من الجميع، في إبراز جوانب الألفة، والاقتراب، والاشتراك، والابتعاد ما أمكن عن النقاط التي تثير الحساسية والإشكال والاختلاف التي تعتبر موروثا تاريخيا دخل في حكم التابو والمقدسات. والعمل على خلق تقاليد حوارية مستقبلية يلتف حولها الجميع، والانطلاق من الصفر بمناهج مدرسية تتجاوز كل هذه السجالات، وتركز على الائتلاف وتؤسس لثقافة التسامح والحب والاحترام، ولا تؤجج مشاعر الكراهية والحقد والبغضاء. ومن هنا، أيضا، تبرز الحاجة وعلى الصعيد الدستوري والسياسي لاعتماد دساتير علمانية تجرّم أي خطاب إثني، وطائفي، ومذهبي، أوتمييز عنصري وخطاب تعبوي وتحريضي.
إن مجرد الشروع في هذا الحراك المذهبي وتحسسه وتلمسه هو بداية لنزع فتيل تاريخي من الريبة والفرقة، والاستعداء، إذا ما اقترن برغبة صادقة وتولاه أصحاب النوايا الطيبة والقلوب الصافية بعيدا عن التزمت والانغلاق. ولقد عانت الكثير من الدول، والشعوب، والحضارات، من أنواع كثيرة من الصدام، والتنافر، والعداء، والحروب الدينية، والطائفية الطاحنة، ولا يزال بعضها مستعرا وتحت الرماد، في بلاد يعتقد أنها وصلت قمة الحضارة والرفاهية، كما هو الحال في بريطانيا العظمى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بين "الكاثوليك والبروتستانت "، ولكن، وبشكل عبثي، وبعد كل جولة من العنف والصدام، يعود الجميع لطاولة المفاوضات. ومخطئ وواهم كل من يعتقد بقدرته على تغيير طبيعة الناس والانتماء، وتطويع ميولهم ورغباتهم وتكوينهم، وكل الحركات السابقة في التاريخ، التي حاولت السير في هذا الاتجاه، انتهت وولت مهزومة، وإلى غير رجعة كالفاشية، والنازية، والشيوعية بوجهها الدموي القمعي والاستبدادي حالك السواد.
هل هي بداية لحراك مذهبي مبارك بعد أن تحول الشحن، والتأجيج، والتعبئة إلى مسارات خطرة جدا قد تشعل مساحات واسعة من هذه المناطق اليابسة والمتصحرة وتقود إلى ما لا يحمد عقباه؟ والمطلوب من كل الحكماء، والعقلاء، والوجهاء تولي هذه المهمة التاريخية الجسيمة، وعدم إهمال هذا القطاع الحيوي الروحي، والهام، وتركه ملعبا للجهلاء، ومطية للمتزمتين والغوغاء والرعاع، ومن كل المشارب والأطراف.

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com