ليس ترفاً فكرياً، ولا مطلباً طوباوياً موغلاً في رفاهيته المعنوية، ولا هو حتى حلم مفعم بالتفاؤل، أن تتم الدعوة لتحرير المرأة من كافة أغلال العبودية، والتبعية والاسترقاق المختلفة التي تتعرض لها سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وتخلصها من الخضوع لتلك القوانين البدائية التي شلّت طاقتها الإبداعية وتركتها جرماً ضئيلاً جداً، وغير مرئي، سابحاً، ودائراًً في فلك الذكورة الطاغية و"الرحبة". والمرأة التي اعتبرت على الدوام كائناً هَمِشاً، وغير ذي أهمية، ملحقا على الدوام بعالم الرجال الذي حضنها، ومدّها بكل أسباب الحياة والبقاء، بدأت تصبو ومنذ أمد بعيد لبلوغ هذا الإرب الشرعي، والمطلب القانوني. ومن الصحة القول بأنها قد حققت قسطا لا بأس به منه، في غير مكان من العالم، وأصبحت ذات تأثير وتتحكم، شيئا ماً، في تسيير عجلات بعض المجتمعات، وعلى مختلف الصُعد والمجالات.
لكن الدعوة لتحرير المرأة في هذا الجزء المنكوب، والموصد عموماً على كافة عوالم وتيارات الانفتاح، تكتنفها بعض الصعوبات والالتباسات، بحيث قد تصبح عندها، فعلاً، ترفاً ظاهرياً، بشكل ما، يمارسها العاطلون عن التفكير الرصين الواقعي والجاد في أوقات الفراغ. إذ لا يزال هناك ثمة عوائق كبرى غير تلك العادية والتقليدية. ونعني بتحرر المراة بشكل عام ليس استحواذها على بعض الحقوق الشكلية كقيادة السيارة وامتلاك الثياب والأثاث والذهاب للمسارح، بل امتلاكها لقرارها الخاص، واستقلاليتها الكلية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وحرية العمل والنشاط العام، ووجود قوانين وضعية تكفل لها كل تلك الحقوق والحريات.
وتسترعي الفكرة المغرية، في الآن ذاته، قراءة واقعية متأنية ودقيقة لظرف، ومناخ، وشرط هذه "الفعل الدعوي الإنساني" الخاص، والذي من الممكن أن ينظر إليه، ومن جانب ما، على أنه حاجة زائدة، وحِملاً إضافياً "إكسترا" وغير ذي صلة في هذه المراحل الهلامية بالذات. ويصبح حتى، في بعض أطوارها التعسفية المفرطة، شططاً مطلبياً تفاؤلياً غير مدروس بعناية، ولا مبرر له، وغير مربوط بواقعه الأصلي، بشكل علمي ممنهج، ويقتضي عملياً، وبالضرورة الأولى أن تكون المقدمات الموضوعية شرطاً أساسياً، و مقبولاً للنهايات المنطقية المتوخاة.
ومن هنا، فإنه لمن الخطأ الاستقرائي الواضح، النظرة للمرأة بمعزل عن شرطها الموضوعي العام، ومن غير الفائدة، وربما الممكن، أيضاً، حتى وإن كنا متفائلين جداً، عزل جزء معافى عن كل سقيم، عليل وغير صالح للحياة، والبقاء. وعندما يموت الأصل فلابد ستموت، وتتآكل، وتصبح غير ذات جدوى الأفرع والأطراف. ومن هنا قد تصبح الدعوة لتحرير المرأة ونيلها كافة حقوقها السياسية، والاجتماعية والاقتصادية أمراً مفرطاً في رومانسيته في ظل واقع مزرٍ، وتعيس، وفي حالة التمويت للكل المجتمعي السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. لا بل إنها تبدو، وللبعض، مدعاة للسخرية والتندر في بعض الأحيان. وقد يبدو أنه من الجائر، ومن غير المناسب حالياً، أن يتم الحديث عن منح حرية للمرأة لوحدها كمكون ذاتي مميز الأبعاد عن كل متضامن في ماهيته، ومتجانس في خضوعيته، وفي الوقت الذي يئن فيه الرجل تحت وطأة واقع من الاستبداد، والقمع، والقهر، والإفقار. حتى أن البعض يردد أن الظلم في الرعية عدل، طالما أنها والرجل، في نفس الشروط الموّلدة للقهر والإحباط والاسترخاء التاريخي العام.
والحرية كما هو معلوم ليست بضاعة مركونة في مستودعات وخزائن هذا وذاك ليهبها لمن يشاء، ومن السذاجة القول أنه في اليوم الذي يصدر فيه "مرسوم" تحرر المرأة فهذا سيعني حكما أنها أصبحت تنافس النساء الذين يمارسون هذه الحالة الإنسانية لعقود من الزمان، لأنها مكبلة بأثقال اجتماعية، ودينية وتاريخية متأصلة تجعل من العملية جهدا شاقاً جداً بكل الأحوال، وغذا كان بالإمكان تحريرها خارجيا، وظاهرياً، فالعملية ستكون بمنتهى الصعوبة حين التوجه داخلياً. وقد تكون المرأة، في بعض الحالات، في وضع أحسن نسبياً، إذا ما قورنت بما يتعرض له الرجال عموما من اضطهاد عام، وهذا لأنها كانت على الدوام هنا خارج كل نشاط، ومسقطة كلياً من المعادلات والحسابات والتوازنات. وأما لماذا المرأة بالذات؟ فالجواب هنا بكل بساطة لأن المجتمعات التي تمارس الاستبداد العام هرمياً، فإن الحلقة الأضعف في هذا الهرم سيناله القسط الأوفر من السادية والعذاب، ولا يحتاج المرء لكثير من الحصافة ليعثر على تلك الحلقة في الحال.
وبذا يصبح التساؤل المنطقي المطروح، هل نال الرجل كافة حقوقه السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؟ يُعتقد، ومن زاوية معينة، أن الوضع الذي تعيشه المرأة في مختلف هذه البلدان، ونظراً لما تتمتع به من حماية خاصة فرضتها العادات والتقاليد والأفكار الدينية، في وضع اجتماعي ومعنوي ربما أفضل بكثير بما لا يقاس مع وضع الرجال، وطبعا هذا لا يعني أنها في مأمن من ظروف القهر، والفقر، وعُرضة للتنكيل على الإطلاق. إنما القصد أنها ظلت مهمشة عن أي نشاط عام احتكر ما "تبقى" منه الرجال. وبذا بقيت معفية من المسؤولية وخارج الحساب فيما يتعلق بمساءلة كل من تسول له الأمارة بالسوء للعمل بالنشاط العام.
إن اضطهاد المرأة ارتبط عموماً بالتاريخ الشمولي العام لممارسة الاضطهاد بأعلى طاقاته الممكنة التي كانت تبيح إنتاجها الإيديولوجيا المهيمنة على المجتمعات، والذي كان الجانب الذكوري ضحيته الأولى، إذا استثنينا الجانب المتعلق باستغلال المرأة جسدياً، وهو الأسوأ على كل حال. ومن هنا كان اضطهادها نابعاً من اضطهاد الرجال بالذات، الذي لا يزال قائما على قدم وساق، وبالتالي فإن إطلاقها من خلف الأسوار تحتم أيضاً، وأولاً، تحرراً ذا منحىً وطابعاً عاماً يكون الرجال طرفاً أساسياً، وسابقاً فيه.
إذن لا يمكن عزل مكانة المرأة في الحياة عن شرطها الموضوعي العام الموسوم بالاستبداد والاستغلال والاحتكارية المطلقة لوسائل الإنتاج الاقتصادية، وأدوات التعبير السياسية، والهيمنة المطلقة على ظروف الحياة الاجتماعية الأخرى، وهي هنا في حالة تعطيل كلي في أحسن الأحوال. والحرية بشكل عام حالة شاملة ومحصلة طبيعية لتطور وسياق عام، ولا يمكن أن تكون جزئية، أو نسبية انتقائية على الإطلاق، وهي مرتبطة إلى حد كبير بوضع الحريات العام، ولا سيما بالحرية الاقتصادية التي تعتبر شبه غائبة في ظل أنظمة اقتصادية متآكلة ومتهالكة، لا مكان فيها للحرية الفردية، والمبادرات الذاتية الملهمة، وخضوعها لتبعية مطلقة لتروستات الاحتكار المختلفة المسيّسة والمرتبطة بمراكز القرار ذات الأذرع الأخطبوطية، ومافيات النهب والمال، التي لم تترك أي هامش للحركة ولأي كان، لأن في ذلك ضرراً مؤكدا على وجودها في نهاية المطاف. الاحتكارية المطلقة لكل شيء تركت المجتمع كليا في حالة عجز، وشلل تام. وقد وعت النظم الشمولية، والعائلية كنه هذا القانون الهام، وسهرت على تطبيقه، وولّدت هذه المجتمعات المفرغة من أية قوة زخم حقيقية قادرة على تحقيق الضغط المطلوب باتجاه تغيير ما. ولم تكن سياسات الإفقار الممنهج لتصب يوما إلا في هذا الإطار. ولتصبح عندها قضايا مثل البطالة، والدعارة، والطلاق، التعسفي، والأمية، و العنوسة تحصيل حاصل بالنسبة للنساء، تقابلها بطالة أيضاً، وإعراض عن الزواج، وتهميش، وظروف مأساوية مختلفة لدى مجتمعات الرجال.
وعندما يتحرر الرجل نفسه من التبعية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وقوانين الطوارئ العقلي التي تكبله يمكن عندها، وبشيء من الأريحية النظر إلى قضية تحرر النساء، واعتبارها أمراً ممكناً. والسؤال الهام، من الذي سيحرر المرأة؟ المرأة نفسها أم الرجل؟ أم الاثنان؟ المرأة في هذه المجتمعات الذكورية المطلقة مهمشة ولا دور لها في الحياة ولا تزال العراقيل والقوانين غير الوضعية تقف عائقاً كبيراً أمام تحررها وولوجها عوالم الحياة المختلفة من أوسع أبوابها. وأما الرجل المستعبد سياسياً، والمفقر اقتصادياً، فالأولى به أن يحرر نفسه قبل أن يدعو لتحرر النساء، وفاقد الشيء لا يعطيه بأية حال.
كما أن تحرر النساء عموماً، يتطلب إنضاجاً صحيحاً لمجمل المقتضيات الثقافية والفكرية والمعرفية، وحتى الصحية والسيكولوجية، إذ أن المرأة بدخولها لهذا العالم الجديد، ومن أوسع أبوابه دون ذاك التأهيل المطلوب قد يحدث إشكاليات كبرى. وما يحصل أحياناً من عدم قدرة على الاستقلالية الذاتية، والانسجام النفسي والمعرفي حين تنتقل امرأة من مجتمعات مغلقة إلى مجتمعات مفتوحة يظهر أحد وجوه تلك الإشكالية الكبرى.
الحرية ليست حالة خاصة ومعزولة يتمتع بها ويعيشها طرف اجتماعي بعينه بعيداً عن سائر المكونات البشرية الأخرى الذين يعانون مجتمعين ظروفاً لا يحسدون عليها بكل الأحوال. وحين يتمتع المجتمع بشكل عام بحقوقه كلية، ويعيش الحرية بمفهومها الحضاري سيكون عندها المجتمع قد وصل لمرحلة يمكنه من قبول وتفهم ممارسة المرأة لدورها الهام. و إلا فأي حديث فضفاض مسفر في طوباويته الفكرية عن تحرر شامل للنساء، يتجاوز تلك المعطيات الهامة والواقع العام، هو محض عبث، ولهو، وتضييع للأوقات. فالطريق مازال طويلاً وشاقا لبلوغ ذاك الهدف، ومعبدا بكثير من العوائق والمنغصات.
هذه هي واقع الحال السوداوية، والبعيدة كليا عن الرغبة الشخصية، التي تنحو بالطبع لجهة انتفاء كل تلك الظروف التي تقود المرأة إلى وضعها الطبيعي والخلاق في الحياة.