قادماً من إمبراطورية صربيا الكبرى، وما تبقى من أوصال الاتحاد اليوغوسلافي المنقرض، ككل البنى الصورية والعقائدية الجبرية، إلى زنزانة عزلاء في لاهاي، ظلّ الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش يتعرض حياً للتشريح السياسي في "الهايغ"، ولاسيما على مدى الأعوام الأربعة الماضية، قبل أن يدخل، جثة هامدة خرساء، فعلياً، إلى غرفة التشريح الطبي الحقيقي، ويتعرض للتشطيب والتقصيب وتقطيع الأوصال، تماماً كما حاول أن يفعل هو سابقاً بشعوب البلقان. ومن نافلة القول أنه قد كان قبلاً قد أعمل مباضعه، ومقصاته، ومشارطه القومية والعنصرية، وأدواته الإجرامية في جسد تلك الأقليات، والإثنيات المنكوبة التي أُجبرت على الانضواء، وبخطأ تاريخي ذات يوم، تحت راية شيوعية خاصة من انتاج الاتحاد اليوغسلافي الذي أسسه الماريشال المتمرد جوزيف بروز تيتو، والذي تجلى بتيّار عدم الانحياز كرد يائس في عالم الاستقطاب الطاغي الذي كان سائداً بين الشرق والغرب ذات زمان.
وكجميع الحمقى والموتورين والعميان، في التاريخ الإنساني المديد لم يتعظ "مجنون ميرا"، ومهووس صربيا الكبرى بما آلت إليه الفاشيات القومية والعنصرية التي جسدها هتلر وموسيليني، والتي فتحت أكبر محرقة بشرية في تاريخ الإنسانية جمعاء، وظل حتى وقت قريب، بعض من رموزها العنصريين الفاشيست يتعرضون للتشريح السياسي والقانوني، ويدخلون إلى المشرحة الأممية جماعات وزرافات ووحداناً. وأراد أن يجرب، نفس الألعاب النارية الحمقاء، التي أحرقت الأخضر واليابس، ولكن في نفس الوقت، أصابع كل من حاول أن يلعب بها، ويقترب منها.
ولعلها من مفارقات القدر النادرة، وصدف السياسة العجيبة فقط، وتاريخ التشريح القانوني، أن تتم محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ويتعرض نظامه للتشريح القانوني والسياسي والإعلامي، في نفس تلك اللحظة التي كانت تتجه فيه السيارة المحملة بجثة ميلوسيفتش إلى المشرحة الطبية الفعلية في لاهاي. ففي المشرحة القانونية، والإعلامية حيث كان مبضع القاضي العراقي رؤوف عبد الرحمن، ورئيس هيئة الإدعاء العام الأستاذ جعفر الموسوي، يعمل تشريحاً بواحد من أكره الأنظمة الشمولية التي ظهرت في التاريخ البشري، وكانت أكثرها سادية، ودموية. ومهما تكن نتائج أية عملية تشريح سياسي وطبّي وإعلامي، فإن مجرد الدخول إلى أية مشرحة، ومن أي باب كان، لهو دليل على وجود شبهة ما، وانحراف، وضلال وعرضة للقيل والقال والاتهام، وعلامة على دنو الأجل السياسي، واقتراب ساعة الحقيقة الكبرى، التي حاول هؤلاء، طويلا، إخفاءها عن الناس.
ولن نضيف شيئاً جديداً، وعبقريا، لو قلنا بأن ميلوسوفيتش، ومن بعده صدام حسين، كانا، حتى الآن، أبرز ضحايا النظام العالمي الجديد وعملية افتتاح المشارح، في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، التي كانت هي الأخرى عرضة لعملية تشريح كبرى، أظهرت كل تلك العيوب والنواقص التي كانت تتضخم، وتتورم، بجوفها بعيدا عن كل أنواع الرقابة، والإشراف الطبي والقانوني والإعلامي. وأن ذاك السقوط كان، بحد ذاته، محفزا، وإيذانا بافتتاح كل تلك المشارح التي يبدو أنها تزدهر في غير مكان، ولن تغلق في القريب العاجل. ويبدو أن مهنة التشريح السياسي، والإعلامي، والقانوني قد ازدهرت أيما ازدهار، في هذه الآونة بالذات، بعد أن كانت التورية، والتمويه، وإخفاء الحقائق، والهروب من العقاب، والتلطي خلف الشعارات هي القاعدة، والمعيار.
وفي الحقيقة ليس من العدل أبداً الحكم على الناس من خلال ولائهم، وانتمائهم، وحبهم لأوطانهم، وحتى عصبيتهم القومية أحياناً، وليس من المعيب أبداً، أن يتفانى أي كان في حب وطنه والإخلاص له، إلا أن الخطر الداهم والحقيقي يتأتى حين يحاول أي كان أن يفرض عقيدته، ورؤيته، وعصبيته، ويحارب الآخرين ويصادر أمنياتهم، وأن ينكر عليهم تطلعاتهم، ويحبط آمالهم، ويطوع رغباتهم ويعمّد كل ذلك بالموت الزؤام، ودماء الضحايا والأبرياء، إظهاراً للنقص، وإرضاء لغرور الذات، والعقد النفسية الشنعاء، والنرجسية الفاشية العمياء. وهذا، بكل أسف، ما حصل مع الرئيسين الذين تصادف وجودهما في المشرحة، بمفهومها الرمزي العام، بذات الآن.
لقد فتحت العولمة الجامحة، والنظام العالمي الجديد، وهو ليس أمريكا بالتحديد كما سيقفز فوراً بعض الأذكياء، أبواب المشرحة على مصراعيها، التي ستظهر ما لدى بعض الأنظمة من عقد، وشذوذ، وانحراف. ولم يعد من الممكن بعد الآن ارتكاب أية جرائم، ومن أي نوع كان، دون أن يتعرض مرتكبيها للتشطيب، والتجريح، والتشريح، وسبر الأغوار.
والسؤال المهم، هل سيتعرض القائد المهيب الملهم للتشريح الطبي الفعلي بعد هذا الكم الهائل من التشريح العام، أم يقف الأمر عند هذا الحد من التشريح القانوني؟
سؤال ستجيب عنه الايام القادمة.