نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
يحلو لكثيرين ممن يسكرهم حلو الكلام، وعذب القوافي وسجع المفردات، وحكايا الرومانس تعويضا عن حالة العجز النفسي والهوان وعدم القدرة على المنافسة الحضارية في الميدان، وتطربهم المظاهر الخادعة والصياح في الفراغ وسماع الأصداء، أن يطلق عما يراه من عبوس وتزمت، وتطرف، ومغالاة، وانتشار للجلاليب وإطلاق للحى، وفرض للحجاب، وهبوط في مستوى الوعي، وانتشار الجهل والأمية ومظاهر التخلف الشنعاء، واستسهال الحلول المعلبة الجاهزة من السماء، وعمليات غسل الدماغ، وتكفير الناس، واعتزال الفنانين، وتفريخ الدعاة، ورعاية الوعاظ من فئة النجوم الخمسة في فضائيات طويلي العمر وبراميل زيت الكاز، وأصحاب ربطات العنق الإيطالية ومادون ذلك من البذات الفاخرات، ونجوم كليبات الموت وقطع الأعناق، ومشاهد القتل والثأر والانتقام، وكثرة الكاسيتات لشيوخ البلاغة والخطاب، وقوة ذاك الحلف المقدس والمعلن مع أنظمة الاستبداد، وتحريم الفرح والاختلاط واللهو والموسيقا والابتسامات، وشحن الأجواء بالكراهية، والحقد، والاستعداء، وضخ الدولارات النفطية الهائل في قنوات الاستهبال، ومنع الاختلاط، وخلو المسلسلات من أية مظاهر غير محتشمة وحمداً لله على هذه النعم الوفيرة الطهراء، أو ظهور أي كأس ويسكي فيها أو "حليب السباع"، بأن يطلق على هذا كله ما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية، لدرجة أن أخذت العزة بالحلم، والحمية بمعظمهم بأن أطلق على تلك الدول البائسة التي تعيش القهر، والظلم، والإملاق من "طنجة إلى جاكرتا"(الشعار الرسمي لإحدى جماعات الإسلام السياسي) بالأمة الواحدة المتجانسة بكل ما فيها من تناقضات، وحروب وعداوات وثارات وملل ونحلل وطوائف وقبائل متناحرة وأقوام متناطحة وعشائر متنافسة، هكذا وبكل بساطة، ويريدنا أن نضحك على أنفسنا ونصدق كل ذلك الهراء.
فمن المعروف أن تلك "الصحوة"، إن كان هناك ثمة صحوة على الإطلاق، تزامنت مع صعود أسعار الدولار وبروز النفط كعامل فاعل وأساسي في الحياة الاجتماعية قبل السياسية في العالمين العربي والإسلامي. وقد ساعدت تلك الأفواج الهائلة التي يممت وجهها باتجاه الصحراء طلبا للرزق وتعدل في تفكيرها، وأسلوب حياتها، وفي مساراتها، وتعود لتفرضها فرضا في بلادها، مما ساعد في عملية نكوص حضاري سلوكي كبرى في هذه الدول، إضافة لانعدام وجود بديل نهضوي،أو مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي عصري ومتكامل يأخذ على عاتقه مهمة التعويض المادي لما رآه الإنسان المحبط في هذه الأصقاع من عجز، وهزيمة، وهوان. وهنا ظهر دور الجماعات الإسلامية لاستغلال كمية الشحن القصوى المتراكمة بفعل الهزائم والنكسات الوطنية المتلاحقة، وانخرطت جموع لا متناهية من الشباب، وانضوت تحت تلك الألوية والبيارق الدينية التي ساعدت أنظمة الطغيان الحاكمة على نموها، وسهلت لها المهمة لتضرب عصفورين بحجر واحد. فالعصفور الأول ضمان ولاء وبقاء هذه الجموع الساخطة من الشبان تحت جنح السلطات بفعل الحلف المعلن بين السلطات الحاكمة، والسلطة الدينية الرمزية(وزارات الأوقاف، والمساجد، والجامعات، ودور الإفتاء)، التي يتم تعيين كوادرها الكبيرة والصغيرة جميعاً بفرمانات، ومكرمات سامية من القصور الحاكمة والبلاطات. وأما العصفور الآخر فهو محاربة الفكر اليساري الذي كان سائداً وقتذاك، والقضاء عليه واتهام أتباعه بالكفر والإلحاد والزندقة والهرطقة وإلى ما هناك من أوصاف وتهم في وسائل الإعلام المملوكة للدولة حصراً. كما ساعد أيضا وضع كل تلك الوسائل الإعلامية، مجاناً وعلى طبق من ذهب لنشر كل تلك الأفكار ذات اللون الواحد والتي فعلت فعلها فيما بعد، إلا أنه انقلب السحر والحلف على الساحر، وأنتجت لنا تلك الممارسات ظواهر تاريخية خارقة من أمثال الشيخ أسامة بن لادن، والزرقاوي، والظواهري والصحراوي، و"الأبوات" الكثر الذين يثيرون الرعب، تيمناً بالسلف الصالح، والذين تضيق صفحات الأنترنت كلها عن ذكرهم وذكر أفعالهم ومآثرهم الخالدة على الناس.
وقد عنت هذه الصحوة فيما عنت، وبشكل متضارب كليا مع مفهوم الصحوة، العودة الجماعية والشاملة للوراء ودونما نقاش، لأغوار التاريخ الماضي السحيق الذي أفلتت بعض الدول للتو في الهروب والنجاة منه. ولذا اقتضى هذا استلهام أنماط سلوك ومظاهر خاصة تميز أصحاب هذه التيارات، وأزياءً تتماشى مع ذاك الغوص الطوعي الغرائزي في أعماق الزمان، واصطلح على تسمية هذا الشطط، والنكوص الفكري والسلوكي العام بالصحوة، فتأمل يا أيها الغافل بهذه الفرائد والصحوات العجيبة، وأين أنت من الأنام؟ لا بل يجادلون بقوة، ومدفوعين بدعم من أولي الأمر الألباب، بأن هذا هو الحل لجحافل الأزمات والمشاكل المستعصية الرابضة فوق رؤوس الناس. واقتضت الصحوة على الجانب السياسي والاقتصادي، و"بسبب انعدام نماذج عصرية ملائمة"، استنباط تجارب إنسانية أبوية هيراركية مشاعية رعوية غير علمية فاشلة ومريرة لتطبيقها من جديد على الناس، كالإعلان، مثلا، عن أن دولة الخلافة هي الحل والخلاص ، التي ذهب قتلاً وغيلة وغدرا ثلاثة من خلفائها في أوج تألقها الزاهي الذي يفخر به هؤلاء. ناهيك عن كل تلك النماذج المخجلة والهزيلة المعروفة في عصور التفكك والانحطاط والحروب والدماء. تدهشك دعوات حقيقية وجدية، للعودة إلى هذه النماذج المنقرضة بعد أن ركنت طويلاً في متاحف الزمان وعلاها الصدأ والغبار، في عصر يمضي بسرعة البرق، والصواريخ البازلتية ذاتية الدفع وتحكمه بالكامل نظرية النسبية لليهودي العبقري والجني الألماني الخارق ألبيرت أينشتاين. ومحاولة إقحام كل ذاك إقحاماً إرهابياً ثقيلاً بالحياة العصرية مدعوما بالسيف والرصاص وتكميم الأفواه وسحق الأفكار. وهذا، عملياً، من رابع المستحيلات، إذا لم يكن موتاً على البطيء وانتحاراً حضارياً بكل ما في الكلمة من معان ودلالات، وخروجاً مريراً من المضمار والسباق البشري العام.
في الخمسينات والستينات وقبل الطفرة النفطية وكل هذا البطر والفجور والانحلال، والصحوة الغيبية المزعومة، وبدون كل ذاك الحشو والضخ الفارغ والإقحام والانغماس بالشعارات، كانت تتسم الحياة العامة بالمحافظة عموما وتمثل مكارم الأخلاق، وانعدام نسبي للرشوة واللصوصية والتشبيح والتخوين والتكفير والمافيات والتطاول على الآخرين، وانتشرت القيم والمبادئ السامية إلى حد ما، في جميع مجتمعاتنا المحافظة، واتسمت العلاقات الاجتماعية بالكثير من السلاسة والود والوصال والوئام، مع العلم أن المظاهر العامة للتأسلم وادعاء التعافي والصحوات، لم تكن أبداً بذاك التغول الفاضح من محاولات فرض العقائد والاستئثار بالمشهد العام والسيطرة على عقول وألباب الناس. وبعد الصحوة تغيرت الأمور كلياً، وانقلبت اللوحة رأسا على عقب، ووصلت الصورة إلى الآفاق ملطخة بأفعال أبطال الصحوات وصارت مظلمة شوهاء بشكل عام بعد الاسترسال في حلم السيطرة وفرض العقائد بالإكراه.
ولكي لا يفاجأ أحد من الناس، وتنهال التهم الجاهزة، والصفات المعلبة ، ووابل التكفيرات، نقول نعم نريدها صحوة إسلامية حقيقية لا شكلية كما دأب على تقديمها هؤلاء. ونتمنى من شيوخ الصحوة الكرام الأجلاء أن يحثوا على، ويتبنوا فعلاً صحوة في الضمير، وتمسكاً بالقيم والمبادئ، وثورة في مكارم الأخلاق، وحباً للعمل، وتقديساً للموهبة والإبداع، ونشراً للوعي والمعرفة، ونبذا للتعصب والمغالاة، ودعوة للتسامح، وإدانة للتكفير، وهجراً للبغضاء، ورغبة بالمنافسة الشريفة، واحتراماً للشعوب الأخرى والديانات والمقدسات، ومناهضة للعنصرية والتمييز والاستعداء والاستكبار، وكفاً عن دعوات القتل والتصفيات وقطع الرقاب، ونشراً للخير، وتعميماً للثراء، وقولاً للحق، وتجريماً للإرهاب، ومقارعة للظلم والطغيان والاستبداد، وحرباً بلا هوادة على الاستغلال واللصوص والمافيات، وفضحاً لأساليبهم المجرمة النكراء، وتحقيقاً للعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات والأرباح والخيرات، وتجسيداً لشفافية مطلقة في المعلومات، ونشراً لروح المحبة والتفاني السمحاء وثقافة الاحترام، ودحضاً لأية تبريرات، وأعمال تنال من كرامة الإنسان. لا الاقتصار على تلك المظاهر الخادعة التي لم تعن شيئاً على الإطلاق سوى العدم والفراغ، ولو قدمت أي شيء هام وفعال لما كانت حالنا بالنتيجة على هذه الحال، ولرفعنا لها القبعات احتراماً على أي إنجاز، ومهما بداً صغيراً في المعيار والميزان.
ومع كل ذلك المشهد المحزن العام الغافي عن آلاف المشكلات والمعضلات، والحامل لكل أسباب الصراعات والانفجار، وبعيداً عن كل التفاصيل الدقيقة التي تزيد في الجروح والإيلام، نختم بالقول، لقد "صحوا" صحوتهم المؤرقة الغفلاء، ويا ليتهم ما صحوا، وبقوا إلى أبد الآبدين في كمون، وهجوع، وسبات.
فهل كانت حقا صحوة إسلامية؟