فيلسوف من هذا الزمان

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

أفرزت حقب النفاق العربي الكثير من السلوك الغريب، وعجائب وفرائد الزمان، وبعض الظواهر المخجلة، والنتنة التي فاحت رائحتها في الآفاق. فمثلاً، بدل أن يتعلم الجهلة من المتعلمين، تعلم المتعلمون من الجهلة، وبدلاً من أن يسافر الناس للعيش في الواحات، والشواطئ الجميلة، والجبال الخضراء، توجهوا للعيش في البيد القفر في قلب الصحراء، وبدل أن يتمدن ويتحضر الناس، صاروا يقلدون الناس الذين مازالوا في عصر البداوات، في المأكل، والملبس، والتفكير وأنماط الحياة.
فقد اعتدت أن أراها، مع زوجها صديقي، في المدينة الساحلية الجميلة التي تتوسد تلك الشواطئ الذهبية الحالمة، والجبال السندسية الشامخة على الجانب الشرقي، المفتوح على قلب المتوسط وبوابة الأطلسي مباشرة، مستقبلة تلك النسائم النقية العذرية التي تعتبر غذاء روحياً يطيل في عمر الإنسان. كانت تتردد إلى الجوار لممارسة رياضة السباحة حيث أسكن في تلك الأجواء. وكانت تلك الحورية البحرية المتناسقة الأبعاد تظهر غالباَ على الشاطئ بتلك السيقان الفضية المكتنزة الجميلة، بأرداف طيبة مغناج، كانت تتهادى بدلال مقصود ميّاس، يتحرك معها كل شيء في أرجاء المكان، وأما ذاك الجيد الثلجي الصافي، فكأنما كان يشعرك بأنه طبقات "بللور" قد قُدّت من ماس،. والطامة الكبرى في ذاك الصدر التسونامي العامر بالحليب، والدسم، والأمواج، والمسبب للكوليسترول، والشبق والهياج، وكان لوحده ملحمة حقيقية من الإثارة والإغراء. وذروة التلويع والإيحاء المصاحب للآلام، فإنما كان في ذاك البكيني الأحمر الفاقع الذي كان يأوي رابية ناهدة بإتقان، وظاهرة بعنفوان للعيان، وتغفو عليها غابة من الشوك الأشقر الفتاك. وغالبا ما كنت أختار ذاك المكان الوادع الساحر المفعم بالإلهام، لاحتساء ما تيسر من "المنكر" من البيرة في تلك الصباحات الرائعة، وكان وجود تلك الغزالة في مسرح الحياة يضفي على اللوحة جمالاً، وألقاً، وبهاءً، وحراكا حقيقيا، وليس كحراك المعارضة السورية على أية حال. وفي أحايين كثيرة كانت هي الأخرى ترفع لي علبة البيرة الألمانية الخضراء، وترد عليّ بتحية رقيقة تهز الجبال، وبلغة "الفرنجة" قائلة:"هاي".
وكان لابد، وفي تلك اللحظات الهامدة من السكون والرومانس التي تنزع التأمل، والتوثب، والإعجاب، أن تتفجر كل البراكين الخامدة من زمان، لتحدث كل تلك الاضطرابات، والتقلبات الطبيعية التي كانت تندفع بقوة نحو الملامح والأحداق. وبالرغم من كل ذاك الكم الهائل من السحر والجمال الفتان، والدعوة الصاخبة المبررة للانفجار والانشطار، فلم أكن أضمر في نفسي سوى مشاعر الود، والأخوة، والعفاف، وأتمسك بتطبيق جميع مواثيق الأخلاق، ومعاهدات السلام، والأمن واحترام الحدود، وحسن الجوار.
وتشاء مساوئ الصدف، ونكد الدهر، ولعنات القدر، أن نلتقي في أحد المجمعات التجارية في قلب الصحراء، أنا وصديقي المخلص الهمام الذي كان يعمل مدرساً في "ديار الإسلام"، وقد أطلق اللحية وارتدى الجلباب، وأمسك بـ"المسباح" وتحول لداعية وقور من السماء، وكان بجانبه كومة متناسقة من السواد بدون أية تضاريس، أو نتوءات ولا يظهر منها سوى تلك العينين اللتين كانتا تجوب المكان ببرودة، وملل، ولا مبالاة. ولفت انتباهي حين انبعثت موجات صوتية همساء من تحت تلك الملاءات السوداء تلقي علي بتحية الإسلام هذه المرة، قائلة السلام عليكم ورحمة الله أستاذ. ولم أستطع إخفاء دهشتي وحيرتي، متسائلاً، عمن يكون ذاك المخلوق الذي ألقى عليّ بالتحية والسلام. فأفاد صديقي بأنها زوجته نفسها التي عرفتها في تلك الصباحات على شواطئ الأحلام. وعندما سألته لِمَ تتخفى بهذا الشكل، وكأنها على وشك تنفيذ عملية سطو مسلح على أحد البنوك كمعظم مناضلي أنظمة العربان، أوستهم باختطاف طائرة لتصدم بها أحد أبراج العولمة والكفار، عبر تدثير نفسها بكل تلك الأطنان الثقيلة من القماش والأثواب؟
فأجاب صديقي بأنها أصول الشغل، والغاية منه تقليد الناس هنا، ومدارة للقمة العيش، والحياة في هذه الأصقاع المغلقة التي تقتضي الظهور بهذا الزي بالنسبة للنساء وبهذا الزي بالنسبة للرجال. وحين تكون في مدينة "العوران" فضع يديك على إحدى عينيك، وكل ذلك من أجل المال والدولارات. فقلت له حسنا، وهل تعتقد أنك ستصبح مثل هؤلاء الناس بمجرد لبس لبسهم، أو هل من المكن أن يصبحوا هم مثلك في يوم م، ويفكرون نفس تفكيرك، لمجرد ارتدائهم القميص والبنطال، أم أن صراع القبائل، وليس الحضارات باق إلى يوم تبعثون أحياء؟ وهل يتقبلوك أصلا في مجتمع القبائل، والعشائر، والأفخاذ؟ ثم إن هذا هذا ليس زيها، ولا من تقاليدها، وفيه، و"لا مؤاخذة"، شيء من التلون والنفاق والرياء. فقال لي أعرف ذلك تماما وأنا معك كلياً، ولكن وجود الإنسان في مجتمعات محافظة ومغلقة يتطلب منه أن يقلدها ويجاريها حفاظاً على مصدر رزقه. فقلت له فإن معنى ذلك منطقيا أيضاً، ما يلي: لو تطلب الرزق، ومداراة الناس، وفي مجتمعات مفتوحة، أن تتعرى النساء وتفعل "أشياء" أخرى فهل ستفعل ذلك على الفور، لأن الحياة وتقاليد المجتمع تتطلب الانصياع لها حتى ولو لم تكن مقتنعا بها هل هذا هو القانون الذي تعمل به؟ فأطرق صامتا، واستأذن طالباً الانصراف بهدوء، وخجل فيه شيء من الفرار، والإحراج.
إن هذا لا يعني ازدراء تقاليد أي مجتمع والانتقاص منه، ومن تقاليده على الإطلاق، ولكل مجتمع خصوصيته التي توجب التقدير والاحترام، ولكن العلة فيمن يقحم نفسه في عادات الآخرين ويحاول التشبه بها طمعا بمكسب ومال وبكل ما في ذلك من إلغاء للخصوصية والذات، وهذا للأسف ما حصل مع كثير من الناس وفي غير مكان، حيث أن هناك من اضطر لخلع حتى ورقة التوت من أجل بعض صغائر المكتسبات. وإنها وصمة عار كبرى في جبين أولئك الذين أصبح لديهم ازدواجية في السلوك والتفكير، وصار التمثيل والرياء عادة لديهم، ومنهجا في الحياة، ليصبح عندها الستر المزيف، والفضيحة الفقعاء، وهتك العورات في نفس الميزان والمقام.
وفي الصيف ولدى عودتي لمكاني المفضل رأيت ظبيتي الصحرواية في ذات المكان، ليتكرر المشهد الطبيعي الجميل، بنفس الديكورات، والشخوص، والمؤثرت، والأوضاع.
 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com