موقف اليسار العربي والعالمي من أحداث العراق

عادل أمين

لعب الرأي العام الدولي على الدوام دوراً كبيراً في التأثير على مسارات الأحداث الدولية وإسناده لقضايا الشعوب ودعم نضال الحركات الوطنية التحررية والديمقراطية ‘ ويشغل اليسار الأوروبي واليسار العربي موقعاً متميزاً فيه ولهم دوراً فعالاً ومؤثراً على الشارعين الأوروبي والعربي ‘ فبالرغم من التمايز الكبير بين الشارعين ‘ فالأول ذات الطبيعة الديمقراطية تعطيه مجالاً واسعاً للتحرك والتأثير سواء على مجتمعاته أو على حكوماته ‘ والثاني ( العربي ) تحد من نشاطه مجموعة من القوانين الحكومية التعسفية و الجائرة وتضيق عليه مجال التحرك ‘إلا أنهما استطاعا على الدوام من بلورة الرأي العام الضاغط ‘ بحيث لم يكن من السهل على الأنظمة مهما بلغت أستبداديتها من تجاهله .
وكان الرأي العام على الدوام موضعاً تتسابق جميع أطراف الصراع لكسبه إلى جانبها ‘ إلا أن الطبيعة الإنسانية والتطلعات الديمقراطية والتقدمية للرأي العام ‘ تجعله من أن ينحاز إلى جانب القضايا العادلة للشعوب ويقف إلى جانب الحركات الوطنية والتقدمية والديمقراطية التي تتعرض للاضطهاد ‘ ودرجة انحياز الرأي العام إلى جانب هذه القضية أو تلك ‘ أو بالكلام الأخر قوة دفاعه وتبنيه للقضايا تعتمد على تجليات الأحداث و وضوح صورتها ‘ وعلى ما تستطيع أطراف الصراع من تقديمها وعرضها وتبيانها من الوقائع للمنظمات الجماهيرية والإنسانية والديمقراطية واليسارية التي هي المحرك الرئيسي لبلورة الرأي العام ‘ وفي هذا المجال تلعب العلاقات المباشرة وغير المباشرة مع تلك المنظمات إلى جانب وسائل الأعلام دوراً فعالاً ومؤثراً لإيصال الصورة الحقيقية وملابساتها إليها لضمان كسب دعمها وتأييدها ‘وفي الوقت نفسه يجب أن لا يغيب عن البال من أنه ليس من المستحيل أن يسير الرأي العام الأوروبي والعربي في الاتجاهات والمسارات غير التي يـُفترض أن يسير عليها ‘وذلك بسبب التصورات غير المتكاملة أو بسبب المعطيات الخاطئة المتوفرة لديه ‘ وهذا هو الواقع الحال بالنسبة إلى الوضع العراقي .
فالحالة العراقية منذ سقوط النظام الدكتاتوري واحتلال البلاد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا ‘ ومجريات أحداثها السياسية وبكامل ملابساتها ‘ هي حالة فريدة من نوعها ‘وتدخل جملة من العوامل الداخلية والخارجية تجعلها أن تكون عصية على الفهم وخاصة للمتتبع الخارجي ‘ فقد انبثقت في ظل الاحتلال ‘ مؤسسات عراقية مختلفة ‘وبمشاركة جميع أطياف الشعب العراقي ‘ الدينية والقومية والسياسية الفاعلة وبمختلف تياراتها اليسارية واليمينية والمحافظة ‘ ابتداءً من مجلس الحكم ‘الجمعية الوطنية المؤقتة ‘ الحكومة المؤقتة ‘ ناهيك عن ‘ سن الدستور الدائم والاستفتاء عليه ومن ثم انتخابات الجمعية الوطنية الدائمة ‘ وبعد ذلك تشكيل الحكومة التي أمدها أربع سنوات ...الخ ‘ كل ذلك يجري في ظل الاحتلال وتواجد القوات الأجنبية ‘ فلم يسبق لقضية سادتها هذه الدرجة من الغموض ‘ وتعرضت للتشويه والتبشيع مثلما تعرضت لها الحالة العراقية لدى الرأي العام العربي والعالمي ‘ وساعد على استمرارية هذا الغموض والتشويه ‘ عامل آخر يضاف إلى عملية سقوط النظام عن طريق الحرب والتدخل الخارجي ‘ ألا وهو تقصير القوى السياسية العراقية ذاتها وبمختلف اتجاهاتها الدينية والقومية والسياسية في إيصال الوضع العراقي ‘بتعقيداتها وتشابك عواملها الداخلية والخارجية إلى الرأي العام العربي والعالمي ‘ أو بالأحرى عدم إيلاء الاهتمام الكافي لهذا الجانب وفي وقت مبكر ‘ في الوقت الذي لعبت القوى المعادية للشعب العراقي دوراً في هذا المجال‘ونجحت في مساعيها من جر أوساط واسعة من الرأي العام إلى جانبها وبمساعدة بعض القوى العربية بالطبع .
فالعمل على كسب تعاطف الرأي العام العربي والدولي من خلال العلاقات المباشرة معها ‘ وتوضيح الأوضاع و الأحداث الدائرة في بلادنا بصورتها الصحيحة وبكامل حيثياتها وتشابك عواملها و بمفرداتها لهما ‘ مسألة في غاية الأهمية لعموم أطراف العملية السياسية في العراق ‘وتزداد أهميتها أكثر والآن بالذات لأصحاب الاتجاه الوطني الديمقراطي لكسب تأييديهما واسناديهما لدعم نضالها ومساعيها التي تهدف إلى بناء الأسس الصحيحة لدولة حضارية ذات طبيعة علمانية تحترم جميع الأديان والطوائف وفي نفس الوقت تنأى بنفسها عن الطائفية ‘ أو العمل على أقل التقدير لكبح اندفاع التيار الطائفي والمذهبي أو الداعين إلى المحاصصة الطائفية والعرقية في تثبيت قواعدها وأحكامها وأفكارها في بنيان التركيبة السياسية التي من المزمع تشكيلها لقيادة دفة المسيرة القادمة لبلادنا ‘
لذا حسناً ما فعله الحزب الشيوعي العراقي في توجيه رسالة إلى الأحزاب والقوى الصديقة والشقيقة ‘ لشرح الأوضاع في العراق ‘وتبيان موقف الحزب منها ‘ ومرّد ذلك ‘ إن أغلبية الأحزاب والقوى اليسارية العربية والأجنبية والرأي العام ‘ تتخذ لحد الآن موقفاً سلبياً من مجمل العملية السياسية الجارية في العراق بسلبياتها وإيجابياتها ‘ والذريعة التي تتوكأ عليها هي الاحتلال ووجود القوات المحتلة في البلاد ‘ والمحتل هي الولايات المتحدة الأمير كية ‘ ذات الوجه البشع في السياسة الدولية والتي لازالت الشعوب تختزن في ذاكرتها الآلام والمآسي عن ما فعلتها الولايات المتحدة من الآثام بحق الشعوب والأوطان على مدى تأريخها ‘ وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية .
وهذا الموقف السلبي الذي يبديه الرأي العام يفت شأنا أم أبينا من عضد التيار الوطني الديمقراطي ‘ لا لأنه يفقدها الدعم والإسناد الضروريتين فحسب ‘ لا بل لأنه يتجاوز إلى البحث عن المصوغات الفلسفية والقانونية للطعن بالعملية السياسية إجمالاً لإثبات عدم مشروعيتها بذريعة إجرائها في ظل الاحتلال وإدانة أطرافها واعتبارها أدوات مساعدة للاحتلال! وتستغل المجاميع الإرهابية المسلحة بمختلف ألوانها هذا الموقف غطاءً إعلاميا لأعمالها الإرهابية ضد التجمعات المدنية والتي تطال بشكلٍ خاص منتسبي أحزاب التيار الوطني الديمقراطي‘ إضافة الى تخريب المنشآت الخدمية ..الخ ‘ وتدعو هذه المصوغات الفلسفية والقانونية القوى الوطنية و الديمقراطية العراقية إلى ترك العملية السياسية واتخاذ موقفاً سلبياً منها وتأجيل طموحاتها في بناء أسس النظام الديمقراطي إلى آماد أخرى ‘ أي إلى مرحلة ما بعد إنهاء الاحتلال ‘ واللجوء الآن إلى امتشاق السلاح واعتماده كأسلوب أمثل لمقاومة الاحتلال وطرد القوات الأجنبية واعتبار ذلك هدفاً مركزياً في المرحلة الحالية ‘ وغض النظر عن تعقيدات ظروف البلاد بتنوعها الطائفي ‘المذهبي ‘ العرقي ‘ السياسي ‘ الفلتان الأمني ‘ تحكم الميليشيات المسلحة بتعدد جيوشها ‘ وتكدس الأسلحة بكميات خيالية في الشارع العراقي
إذا كان هذا الواقع العراقي غير مفهوم ويكتنفه الغموض والالتباس لدى التيار الديمقراطي الأوروبي بشكل عام واليساري بشكل خاص ‘ لكن فما هو بال التيار الديمقراطي التقدمي في الدول العربية ؟! الذي هو بتماس مباشر مع الوضع العراقي ‘ وإن العوامل التي أوصلت العراق إلى ما عليه الآن ‘ هي كامنة أيضاً في بنيان معظم الدول العربية ‘ وإذا ما لم يصار إلى معالجتها في وقت مبكر عن طريق الإصلاحات الديمقراطية فهي قابلة للانفجار في أية لحظة كانت ‘ وهذا ما لا يتمناه المرء . ونظرة سريعة جداً إلى ما آلت إليها الأوضاع في الدول العربية منذ الاستقلال ولحد اليوم تظهر لنا بجلاء إن غياب الحياة الديمقراطية هي الحلقة الأساسية المسببة لسلسلة الهزائم و الانتكاسات والمأساة التي عاشتها شعوب هذه الدول .
ففي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ‘نالت معظم الدول العربي استقلالها السياسي الفعلي ‘وسيطر التيار القومي العربي التحرري على مقاليد الحكم ‘وكان يؤمل منه بناء دول متحررة قوية ‘ بناء أنظمة تستند على المفاهيم الديمقراطية العصرية ‘ تعزيز التحرر السياسي عن طريق إنجاز التحرر الاقتصادي ‘ خلق الازدهار والرفاهية لشعوبها وإيصالها إلى مصطاف الأمم المتحضرة ‘ وإعادة (أمجاد) الأمة العربية وبناء وحدتها ! والمساهمة الفعالة في النهضة البشرية ...الخ !!
الآن وبعد مضي أكثر من نصف قرن على الاستقلال ‘ ولنعيد قراءة التأريخ لنرى ماذا تحققت من تلك الوعود ‘ وما هو الذي جنته هذه الشعوب ؟؟ كان أول الغيث قطرة وتلتها ‘بادئ ذي بدء اُستغلت القضية الفلسطينية ‘ وأصبحت هي القضية المركزية وعُلقت كل تطلعات وأماني شعوب الدول العربية عليها ‘ وعلى تحرير فلسطين ‘لا ينام لنا جفنٌ وفلسطين محتلة ! لا ديمقراطية (لا بشقها العصري ولا ببدعتها الشورى) لا ازدهار‘لا رفاهية ‘لا الحديث عن الحرية ‘ لا الدساتير الدائمة ولا تطبيق المؤقتة منها ‘وأصبحت الحديث عنها هي تفتيت للجبهة الداخلية !! ‘واُستغلت هذه القضية ‘ القضية الفلسطينية بأبشع صورها من قبل الأنظمة ضد شعوبها ‘ وتحولت الأنظمة الحاكمة إلى أبشع الأنظمة الاستبدادية والشمولية والعنصرية عرفها تأريخ الدول العربية الحديث ‘ استهترت بحقوق شعوبها وأوطانها وعرضت استقلال ومستقبل دولها إلى مخاطر جمة ‘ومسخت شعوبها وكممت أفواهها ‘‘ وصرفت أموال شعوبها لبناء الأجهزة الأمنية لإسناد أركان حكمها ‘ ولبناء القوات المسلحة ليس للدفاع عن الوطن ‘ وإنما لاستخدامه لقمع الجماهير !! ًورفعت تلك الأنظمة كذباً وزيفاً شعار كل شيء من اجل المعركة مع (العدو) الصهيوني ‘وكانت تستهدف في الحقيقة من ذلك ديمومة سلطتها لا أكثر ‘ وأصبح المنادون بالديمقراطية والانتخابات والدستور الدائم‘ والرفاهية ‘وحقوق المرأة ‘ والنهوض الاقتصادي‘ ومكافحة البطالة والتطور الصناعي ‘ والتكامل الاقتصادي ‘ودعم المواد المعاشية للفقراء ‘ والحفاظ على استقلال البلاد ...الخ كلهم من الرتل الخامس ‘ وعملاء للصهاينة ومفتتي الجبهة الداخلية ‘وأطلقت عليهم أنواع التهم التي لا تخطر على البال ‘فتحت لهم أبواب السجون ‘نصبت لهم المشانق ‘اُستخدمت بحقهم كل أشكال الإرهاب وجربت معهم أقذر أدوات التعذيب ‘وألصقت تهم الخيانة والعمالة بالأقليات التي طالبت بأبسط حقوقها القومية أو الطائفية أو الدينية .
والآن هل نعيد الكرة مرة أخرى ؟ ألا تكفينا تجربة ودروس نصف قرن ‘ أي منذ استقلال الدول العربية ولليوم ؟؟ حينما اتكأت الأنظمة التي تعاقبت على الحكم فيها على الصراع الخارجي ‘
فعلام تأجيل هذه المعركة ‘ معركة النضال لأجل الديمقراطية إلى آماد أخرى أي إلى مرحلة ما بعد التحرير ؟؟ طالما الظروف الآن مؤاتية للشروع بها والتحشيد لها ‘وهذه لا توهن مطلقاً النضال وبالأساليب السلمية في المرحلة الراهنة لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الكاملة ‘ وإنما ستسرع في عملية بناء كل المستلزمات وتنهي الذرائع التي تتوكأ عليها قوات الاحتلال لإطالة أمد بقائها .
العراق يسير الآن نحو بناء الأسس الديمقراطية ‘ وهي بلا أدنى شك ‘مهمة طويلة وشاقة وصعبة ‘والصراع يدور فيها بين القوى المعادية للعملية السياسية وبين القوى المنخرطة فيها ‘ هذا من جهة ‘ ومن جهة أخرى ‘ الصراع يحتدم بين أطراف العملية السياسية نفسها حول اتجاهاتها ومسارات تطور العملية ‘ وهي ناجمة عن الاختلاف في الرؤى السياسية والفكرية لمستقبل العراق ‘ وبذلك يكون نضال الحزب الشيوعي العراقي الآن على جبهتين ‘ جبهة النضال لإنجاح التحولات السياسية في البلاد ‘ والجبهة الثانية النضال حول مسارات تطور التحولات السياسية نحو تكريس الديمقراطية كنهج في الحياة البلاد ‘ لذلك تكون مهمة ونضال الحزب مضاعفة ‘ ومحفوفة بالمخاطر لاصطفاف القوى لدعم المسار الوطني الديمقراطي نحو النجاح ‘ وهو بحاجة في هذا النضال إلى الدعم والإسناد من لدن التيار اليساري والديمقراطي العربي والعالمي ‘ ونجاح هذه المهمة ستصب في مجرى نضال القوى الوطنية والتقدمية في المنطقة التي تتطلع نحو الديمقراطية والتقدم والرفاهية والسلام وتجنيب شعوبها الكوارث التي مرت على العراق ‘ وبذلك يكون هذا الدعم والإسناد من أولى واجبات التيار اليساري والديمقراطي في الدول العربية وفي تحشيد الرأي العام العالمي لإسناد نضال الحزب الشيوعي العراقي ‘ والحزب لا يجـد تناقضاً بين النضال لأجل الديمقراطية وبين العمل لإخراج المحتل من البلاد ‘ وبلا أدنى شك سيكون هذا النضال عاملاً مساعداً لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الكاملة .
 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com