سوريا: عودة الحرس القديم

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

تكاد الذاكرة الشعبية العامة والشعور الجمعي العام، لا يستدعيان، وعبر عقود ثقيلة كسلاء، سوى أسماء ووجوه بعينها، دخلت العقل الباطن، و"شرشت" فيه كجذور السنديان، وبدت رمزية، وأبدية، وكوعد، وفرض مكتوب، وقدر محتوم لا بد من مواجهته في ليل هذه الأوطان الطويل الذي خيم عليه الظلام والسديم العام. ولا تكاد أسماء، وشخصيات تغيب لبرهة، وتأفل شمسها الحارقة في عز الهجير الحاد، حتى تعود، وبلا موعد مسبق في " نيو لوك"، وثوب جديد. ويفاجأ المشدوهون بظواهر انكفأت، مؤقتا، عن الساح، لتعود وتحتلها، وبقوة، وتصبح نجمها المتألق الوحيد.
هناك سلسلة من التطورات السياسية جرت، وتجري في المنطقة حاليا، توحي بميل غريزي، ورغبة واضحة للعودة إلى أنماط السلوك السياسي القديم، والتي كانت سائدة في المنطقة، قبل عصر فورة الإصلاح الطارئة التي أعقبت ظهور الدبابات الأمريكية في عاصمة بني العباس، وما تلاها من مشاهد دراماتيكية لتساقط الأصنام. تلك التطورات تؤكد على تراجع كل تلك النظريات المفرطة في تفاؤلها، والتي ترافقت مع الزلزال السياسي الذي هز المنطقة بأكملها، لكن ارتداداته توقفت في مرحلة ما، وعادت الحياة إلى سابق عهدها المعتاد بنفس الوتيرة، والأسلوب والخطاب. كما توقف فجأة تتابع سقوط "أحجار الدوميو" الذي بشّر به بعض الرهبان، من علماء الغيب السياسي العام. فيما بقيت فرضية الشرق الأوسط الكبير في ثلاجة الأوهام، في المرحلة الراهنة على الأقل، و"على أمل" زلزال ثان في منطقة خامدة سياسيا وإيديولوجيا. فاستغلت بعض الأنظمة هذ الأوضاع الشاذة، للعودة ثانية إلى نفس الأساليب المعهودة التي راكمت بقسوتها المنفلتة كل الظروف التي جعلت العراق مطمعا للأعداء، ونهبا للرعاع، وهدفا مستباحاً للصوص والمرتزقة الدوليين الأشقياء.
وقد تجلى هذا الواقع راحة، وهدنة مؤقتة على أنظمة المنطقة، التي بدأت تتصرف بمعزل تام عن وجود النسر الأمريكي الجريح في الجوار، ولم تعد تهتم، أوتعبأ به على الإطلاق. وقد أثار "التفاهم" الأمريكي الإيراني حول العراق، اطمئناناً كبيراً، وتنهيدة عميقة من قبل بعض المعنيين بما يجري على الساحة العراقية، فيما تسبب بخذلان وخيبة أمل كبيرين لكل أولئك الطامحين، والراغبين في التغيير، والذين بنوا أحلاما عريضة على وجود الجار الأمريكي الجديد في المنطقة.
استحضار الأرواح السياسية، وإحياء السَِير الذاتية التي طوتها التجارب والنسيان، تجلت بتعيين الأستاذ فاروق الشرع، أحد أبرز وجوه الحرس القديم السوري، مع كل ما كان يشاع عن رغبة، وطلب، أمريكي لإبعاده عن الواجهة السياسية، والمنصب الذي تربع عليه لمدة عشرين عاما من دهر القهر والاحتقان، وترقيته لمنصب نائب الرئيس، مسؤولا عن ملف السياسة الخارجية والإعلامية. فهل يوحي هذا التعيين بشيء من ذاك الاطمئنان البادي حاليا على سلوك النظام المترافق عادة مع تلك النكهة المطعمة بروح النكاية، وفلسفة الثوابت، والتحدي المعهود الذي خبره الجميع في قرارات وسلوك النظام؟ وأتى عقب ذلك، وبزمن ليس ببعيد نسبيا، لكنه أكد عودة الروح، والوعي، عودة السيدة الدكتورة نجاح العطار إلى الواجهة السياسية العامة، ومن أوسع الأبواب، لترتقي درجات قليلة في السلم الوظيفي، ولا يفصلها عن المنصب الأول سوى بضعة أمتار قليلة، بعد أن سيطرت على الوزارة الثقافية السورية لمدة قاربت الربع قرن فقط لا غير من الزمان. إلا أنه، وكلمة حق تقال، فهي خطوة مباركة وتستحق المديح والثناء لجهة الولاية السياسية للمرأة، وما ينطوي عليه هذا المبدأ الهام من تحد إيجابي ومعان ورمزيات. كما كان للسيدة الفاضلة بصمات إيجابية واضحة خلال ولايتها الثقافية السابقة، ولعبت أدواراً هامة ورائدة في الثقافة السورية. ومع كل ما لهذا التعيين الجديد من إيجابية على صعد عدة لعل أهمها عودة الألق للريادة السورية السابقة على مستوى المنطقة لجهة موقع ودور المرأة في المجتمع السوري، إلا أن هذا لا ينطبق على محور السياسة الخارجية الذي اكتنفه الكثير من الارتجالية والمطبات وحصاد مر، وفشل مريع بشكل عام. ولعل ما نراه اليوم من أزمة مستعصية، وانسداد أفق على هذا الصعيد، هو أبرز وجوه ذاك التأزم الحاد.
كما أن العودة القوية للقبضة الأمنية، واللجوء للخيار الأمني بأسلوبه الفج القديم، واعتقال ومحاكمة النشطاء في محاكم أمن الدولة، يؤكد النية في الحفاظ على هذا التراث وإحيائه عبر تلك الحفلات الأمنية، علما بأنه قد ورد في توصيات المؤتمر الأخير للحزب الحاكم أن هناك اتجاها، وتوصية لحصر تطبيق قانون الطوارئ والأحكام العرفية بالمسائل المتعلقة فقط بالأمن القومي، والصراع مع "الصهيونية والاستعمار"، كما أن إغلاق مركز جنيني يتيم لحقوق الإنسان تابع للاتحاد الأوروبي يعد تنصلاً من كافة الالتزامات بهذا الشأن، ويدعو للجزم بأن لا جديد، ولا تسامح أبداُ في هذا المجال.
انتظار المجهول السياسي، ورفع الأحكام العرفية، وتعطيل قانون الطوارئ، والشروع في برنامج وطني شامل للإصلاح مازالت أحلاما عزيزة وبعيدة المنال. والرهان على تغيير، ولو شكلي وجزئي، معطل، وفي مهب الريح الآن، طالما أنه معقود بتطورات خارجية محكمة التعقيد والتداخلات، واعتباره أوراق لعب وتكتيكات. هذه المعطيات التي تؤكد عودة نهج، وفكر الحرس القديم، ستولد حتما كمّاً هائلاً من اليأس والإحباط، وتزيد من جرعات الاحتقان العام، الذي يتراكم باتجاه متدرج تصاعديا، ولن يعلم أحد متى يصل إلى النقطة التي قد يتولد فيها الانفجار، وعندها فقط، قد لا ينفع التعويل لا على قدرة الحرس القديم، ولا الجديد، في ضبط صمامات الأمان.
 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com