|
في مقال سابق أشرت الى خطورة الوضع الاجتماعي والخدمي في إقليم كوردستان، وبينت ضرورة إجراء إصلاح في البنية الخدماتية والإدارية والمالية للحكومة، مع بيان أهمية توازن عملية البناء على أسس التنمية البشرية والإصلاح الاقتصادي وضرورة إبداء مرونة تامة في إجراء عملية توزيع عادل لثروة الدخل الوطني التي تستقطع بنسبة 17% من مجمل الواردات النفطية العراقية. لهذا تأتي الأحداث التي وقعت في حلبجة كمؤشر طبيعي لافرازات الحالة الحياتية والمعيشية في الاقليم التي أخذت تتسم بالصعوبة والمعاناة، والتي رافقها شغب منفلت من قبل المتظاهرين وبالتالي استغلالها من قبل أفراد لا يملكون انتماءا للواقع والكيان الكوردستاني من خلال حرقهم للنصب التذكاري وتدميرهم لمتحف الشهداء الذين راحوا كضحايا أبرياء لعملية الإبادة، وقبلها من خلال تدمير تمثال الصديقة المساندة للشعب الكوردي سيدة فرنسا الأولى السابقة دانيال ميتران زوجة الرئيس الفرنسي السابق. على هذا الأساس ننظر الى الأحداث الاخيرة في حلبجة، من خلال منظور واقعي، ولكي يكون تعليقنا مطروحا بحيادية، فإننا نطرح سلسلة الأحداث بموضوعية، لان الاحتجاجات، بغض النظر عن حادثة تدمير النصب والمتحف، تعتبر مؤشر قوي على الملل الذي أصاب المواطنين نتيجة المعاناة الحياتية التي يعانون منها وعدم تمكن الحكومة من توفير مقومات الحياة الكريمة لكل مواطن في الاقليم. وكما جاء في جريدة الشرق الأوسط اللندنية، صوت كوردستان 17/3/2006، فإن حادثة تدمير النصب تلقي بظلال الشك على أن جهات محلية وأخرى خارجية قد تكون وراء هذا العنف فقد " أبدى المسؤولون الأكراد الذين اتصلت بهم «الشرق الأوسط« تفهمهم للاحتجاج على نقص الخدمات الأساسية في المدينة المنكوبة فأنهم أعربوا عن «استغراب بالغ» للعنف الذي رافق أحداث أمس، واعتبروا ان جهات محلية وأخرى خارجية قد تكون وراء هذا العنف. ولفت المسؤولون الانتباه الى ان منطقة حلبجة تمثل مركز الثقل للحركات الأصولية المتطرفة التي تلقى دعما من ايران. وقال احد هؤلاء المسؤولين ان هذه الحركات «لم تخف تبرمها بالنصب التذكاري للضحايا معتبرة أياه صنما». ولم يستبعد هذا المسؤول أيضا ان تكون لإيران «يد» في أحداث أمس «انتقاما» من الرئيس جلال طالباني الذي قاد عملية المعارضة لترشيح ابراهيم الجعفري رئيسا للوزراء في الحكومة العراقية الجديدة، باعتبار ان الجعفري مرشح بدعم من التيار الصدري المدعوم بدوره من ايران". وجاء في الأخبار أيضا، بيوكي 16/3، القبض على أحد الإرهابيين كان ينوي القيام بعمل ارهابي في حلبجة يوم الاحتفال، فقد أعلن " أن قوات الحدود ألقت القبض على أحد الإرهابيين على الحدود الإيرانية- العراقية, حيث كان ينوي الدخول الى مدينة حلبجة والقيام بأعمال إرهابية أثناء إحياء المراسيم, وإن الإرهابي اعترف بأنه هناك عنصر إرهابي ينتمي الى جماعة أنصار السنة الإرهابية سيفجر نفسه وسط الزوار والحشد في تمام الساعة التي تصادف ساعة قصف المدينة بالأسلحة الكيمياوية، وأضاف بأنه طلب من المواطنين الابتعاد عن التظاهر خوفا على حياتهم وأرواحهم". وتعقيبا على الأحداث الأليمة، بيوكي ميديا وصوت كوردستان 17/3/2006، أعلن السيد عدنان المفتي رئيس برلمان إقليم كوردستان بأن التظاهر حق شرعي لجميع المواطنين, إلا أن تظاهرة حلبجة الشهيدة خرجت عن مسارها الصحيح, ولا أعتبره عملا جيدا, لأن هناك اهتمام دولي بهذه المناسبة, وهناك عدد من الوفود الأجنبية جاءوا للمشاركة في مراسيم إحياء هذه الذكرى وتقديم الهدايا لأطفال المدينة". وبصدد هذه الأحداث، صدر بلاغ مشترك للأحزاب الكوردستانية، بيوكي ميديا 19/3، حيث جاء فيه "نحن كلجنة مشتركة من الأحزاب السياسية الكوردستانية في حلبجة الشهيدة للبت في تلك الحادثة غير المرادة التي حدثت أثناء إنتهاء تظاهرة من قبل مجموعة من الشباب وطلاب الجامعة والجماهير المخلصة لشعبنا في ذكرى القصف الكيمياوي, ولكن مع تدخل جماعات غير مسؤولة ومشبوه أثناء انتهاء المسيرة من بين عشرات الدوائر الحزبية والحكومية انقضوا على مديرية ذكرى شهداء حلبجة, وبعد ضغوطات كثيرة دخلوها وأحرقوها بجميع وثائقها وصورها وبوستراتها وموادها. يؤسف بأن الحادثة تركت شهيدا واحداً وأربعة جرحى". من خلال هذه التأكيدات تتضح ان عملية تدمير النصب والمتحف لم يكن من ضمن أهداف التظاهرة التي شهدتها المدينة احتجاجا على نقص الخدمات الأساسية في المدينة المنكوبة، وأن الاحتجاجات قوبلت بتفهم من قبل الحكومة والاتحاد الوطني، ولكن مسألة التدمير تبقى مسألة أمنية إتفقت الاحزاب الكوردستانية على استنكارها وإجراء تحقيق فيها. ولكن الى جانب هذه الحادثة، فإن مظاهر الاحتجاجات التي عبرت عنها أهالي المدينة احتجاجا على الحالة الخدمية والمعيشية والاجتماعية والصحية للمنطقة، والتي قوبلت بتفهم من قبل المسؤولين وقيادات الاتحاد الوطني، تدل على وجود خلل كبير من قبل دولة الحكومة ان كان في السليمانية أو في أربيل تجاه المواطن الكوردستاني، الذي بدء يعاني من معوقات ومشاكل حياتية عديدة أكثر قساوة ومعاناة من العهود السابقة من ناحية توفير الحاجات الأساسية والحياتية والخدمية. وبهذا الصدد سبق ان تطرقنا الى هذه المشاكل والتي حصرناه في مجموعة من المعاناة والمصاعب التي يعانى منها الشعب بصورة عامة في الإقليم، وهي مرتبطة بملفات داخلية خاصة بالشأن الكردستاني وتنحصر بضعف الثقة بين الشعب والسلطة، وفساد المؤسسات الحكومية والحزبية والعسكرية والثراء الفاحش للمسؤليين والقياديين المبني على استغلال السلطة واحتكارها، وغياب تنمية الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي تعمل على توفير الفرص الاقتصادية الصغيرة لعموم أبناء الشعب، وفقدان البنى التحتية لتنمية القطاعات الزراعية والصناعية والإنتاجية لإعادة عجلة الانتاج الى الاقتصاد الكوردستاني، وغياب برامج تغيير وتحسين الوضع المرأة وتحصينها اقتصاديا واجتماعيا، وعدم وجود اهتمام بالشباب لتوفير فرص العمل لهم بالتساوي وتوفير مقومات تكوين الحياة الأسرية، وفرض واقع السوق الحر وفق معطيات احتكاره من قبل القلة وعدم وجود مقومات حكومية لحماية مصالح المواطنين، وزيادة عمليات الإثراء الفاحش لأقلية جشعة سيطرت على الواقع السياسي والاقتصادي لكوردستان تحرك الواقع حسب رغباتها ومصالحها الذاتية التي أصبحت عالة على الشعب والمواطن والوطن بسبب عدم توفر وسائل رادعة وطنية تعمل على الحد من الاستغلال واحتكار البعض للحصول على الثروة بأساليب غير شرعية مقيتة. والآراء الصريحة التي أدلى بها القيادي نوشيروان من الاتحاد الوطني حول الفساد وسوء الادارة تشكل دليلا قويا على صحة ما ذهبنا اليه. وأكدنا ان هذه المشاكل والملفات تعتبر استحقاقات انتخابية، على الحكومة معالجتها وإيجاد أفضل الحلول والسبل لها لإزالة تلك المعوقات والمشاكل الحياتية من حياة المواطنين، وهذه الملفات التي ضمنت لنفسها مساحة من التواجد والحضور المتواصل في حياة الشعب تلزم الحاجة الى التعامل معها باهتمام شديد لإيجاد معالجات لها وطرحها بشفافية بعيدا عن الانفعال والرد السلبي المقابل، والملفات التي ذكرناها هي جملة من المشاكل والمعوقات والعراقيل التي بدأت تؤثر بسلبية كبيرة على المواطنين، مما خلقت نفورا من المواطن لكل ما هو حكومي وحزبي على صعيد الرأي العام، ومن جملة هذه المشاكل المطروحة كملفات راهنة هي: ارتفاع رهيب في أسعار الوقود مما أدى الى فرض أعباء مالية كبيرة جدا على المواطنين، ارتفاع خيالي في الإيجارات وأسعار العقارات وارتفاع جشعي كبير في إيجار السكن خاصة عند أصحاب الدخل المحدود، وجود تمايز طبقي بين الشرائح الفقيرة في المجتمع وشريحة قليلة العدد من المسؤولين الحكوميين والحزبيين تعيش في بروج عالية تقتنص رساميل كبيرة من أموال الدولة مستغلين السلطة على حساب الشعب، إلزام التعيينات في الإدارتين بتزكيات حزبية وحرمان الكثير من فرصة التعيين وحصر بعض الحلقات بين أبناء وأقرباء المسؤولين، إهمال الشباب وعدم وجود برامج وآليات معينة للاهتمام بهذه الطبقة المهمة من الشعب التي تراوح في مكانها وتجد نفسها في معمعة من المشاكل والتعقيدات التي ترسم لحياتهم صورة قاتمة عن الواقع وعن السلطة، خلق حالة من الترابط المنفعي المبني على المصالح المادية بين بعض المسؤولين الحكوميين والحزبيين وأصحاب المصالح التجارية والمالية والاقتصادية والجمع بين المصالح الحكومية والمصالح التجارية في آن واحد، إسناد مناصب مهمة في هيكل حكومة الاقليم على مستوى المدراء والمدراء العامين ووكلاء الوزراء والوزراء إلى أشخاص غير مؤهلين اعتمادا على الثقة الحزبية والقرابة للقياديين والمسؤولين وليس الكفاءة والشهادة والخبرة والممارسة والتخصص، ارتكاب خروقات إدارية وقانونية فاضحة على درجة كبيرة من الخرق الإداري في مجال احتساب سنوات الخدمة الوظيفية، عدم توفر نظام صحي ملائم يلبي احتياجات المواطنين ويناسب التطورات والتغييرات الجديدة في مجالات العلوم الطبية على المستوى الحكومي والأهلي، غياب الخدمات البلدية الأساسية، غياب المعايير الفنية والمقاييس الفنية عن المشاريع الحكومية والأهلية خاصة مشاريع الإعمار وتبليط الطرق ومد مجاري الصرف الصحي ويبدو ان الشركات والمقاولات التي تنفذ تلك المشاريع يعود الأغلب منها إلى المسؤولين في الحكومة والأحزاب المسيطرة على الساحة السياسية. هذه هي المشاكل الرئيسية والاستحقاقات والملفات الوطنية الكوردستانية المتعلقة بهموم الشعب والمواطنين في عموم الاقليم، وهي متواجدة في كل منطقة وتعاني منها أغلب المواطنين في عموم قرى ونواحي ومدن ومحافظات الاقليم، والأحداث التي حدثت في كلار وئاكري وحلبجة في الفترات الأخيرة وفي زاخو في سنين سابقة، هي أدلة ميدانية تدل على قساوة المعاناة التي تعاني منها المواطنين بصورة عامة طبقا للمشاكل التي عرضناها بإيجاز في أعلاه. لذا فإن العمل المكثف من أجل معالجة تلك الملفات والمشاكل بجدية تعتبر ضرورة وطنية، لتحقيق وتلبية الحاجات الرئيسية للمواطنين وتوفير الخدمات للشعب، لا سيما وان الميزة التي تتسم بها التجربة الكوردستانية هي ان الشعب والسلطة لا ينظران للآخر بعين العداء والتضاد، بل أن الشعب يحاول بكل وسائله أن تقوم السلطات الحكومية والحزبية بمراجعة نفسها لتحقيق إصلاح جذري في هيكل وهرم السلطات خاصة النفيذية منه لإرساء العدالة وتحقيق الحياة الحرة الكريمة للشعب، والعمل على الفصل التام للحزب عن الدولة والحكومة، وإرساء البنيان المؤسساتي والوطني للدولة، وترويض الانتماءات الى الوطن ودولة الإقليم وليس الى الاحزاب والشخصيات، كل هذا من أجل تطوير التجربة الكوردستانية وتحصينها وتحقيق ثوابت المواطنة المبنية على الأساس الدستوري والكرامة الوطنية للمواطن الكوردستاني للحفاظ على كرامته وكيانه الإنساني. والمؤسف أن هذه الرؤية المطروحة في السابق من واقع الميدان الكوردستاني، مرت مرور الكرام على المسؤولين والقياديين والسياسيين دون استعدادهم للاستماع الى الكتاب والمثقفين والأكاديميين في قراءاتهم وتحليلاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لضيق نظرتهم وعدم التعامل مع هؤلاء على أسس مبدأ المشاركة في البحث عن هموم المجتمع وإيجاد الحلول لها، لأن تعامل البعض منهم مع هؤلاء النخبة تنحصر على أساس التبعية وليس على أساس الاحترام المتبادل للرأي والاستفادة منها، ومما لا ريب أن مبدأ التبعية مرفوض من قبل الكتاب والمثقفين الأصلاء خاصة منهم أصحاب الرؤية الوطنية، وهذا ما جعل الهوة بعيدة بين السياسي والكاتب المثقف في واقعنا. لهذا نجد إن الطروحات السياسية التي تطرح من قبل البعض في الصحافة والإعلام الكوردستاني على الساحة السياسية تشكل بؤر سليمة وصحيحة لتحليل الوضع الاجتماعي والسياسي للمجتمع الكوردي الذي أخذ يعاني من مشاكل حياتية واقتصادية واجتماعية وخدماتية كبيرة، بينما المسئولين رابضين في بروج عالية لا تتواجد على موائدهم ومكاتبهم غير أوراق حسابات الثروة وتقسيم السلطة بينما هموم الشعب والمواطنين في دهاليز غير منظورة لا على أبصارهم ولا على أسماعهم. لهذا وكما قلنا في السابق فإن زلزال حماس في فلسطين هو عبرة للقيادة الكوردستانية، لا زال لم ينظر له بتمعن وتدقيق، ويبدو من الحال أن القيادات في الاقليم لا زالت لم تفقه الى مدلول هذه العبارة التي ستكون لأثرها صدمة كبيرة إن بقي الواقع على حالها في الاقليم دون تغيير ودون إصلاح، ولكن مع هذا يبقى الأمل منظورا في الأفق على المدى القريب، والأحداث الاخيرة في حلبجة ستكون المنطلق الرئيسي للتغيير البناء، لأن إصرار القوى القيادية الوطنية في الحزبين الرئيسين في كوردستان على الوفاء بالاستحقاقات الانتخابية التي التزمت بها القيادة تجاه الشعب، والإيمان بقناعة تامة بضرورة الإصلاح وإحداث التغيير والتجديد والعودة الى أحضان الشعب كفيلة بحصول كل ما هو خير وطيب للارتقاء بالنموذج الكوردستاني ضمن الإطار العراقي الفيدرالي.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |