مشاهد فيلية - ما بين آذار (1974-1975)

د. منيرة أميد

omed397@yahoo.com

في الايام الاولى للثورة الكوردية التي اندلعت في آذار 1974 بقيادة الرمز الكوردي الخالد مصطفى البرزاني بعد فشل تطبيق أتفاقية  آذار لسنة 1970،  تم تحرير مدن كبيرة في كوردستان، ولكن نظراً لصعوبة الدفاع عنها ، أرتأت القيادة ان ينسحب المقاتلون الى خارج المدن لتقليل الخسائر وحتى  لا تستخدمها السلطة عذراً في أبادة وهدم كل المدن الكوردية،  فتحدث خسائر كبيرة في صفوف المدنيين الامنين، لكن في الحقيقة وان كانت تبدوا تلك المدن في النهارأنها بيد السلطة الا انها كانت ليلاً بيد الثوار.

 كان ثوار البيشمركة  قد حققوا انتصارات باهرة والحقوا خسائر كبيرة بالقوات الحكومية رغم استعانة الاخيرة بالطائرات والاسلحة المحرمة دولياً.

 في بغداد ومدن الوسط والجنوب حيث كانت تسكن العوائل الكوردية الفيلية، التحق الكثير من أبناءهم بالثورة،  وقد أغاظ ذلك السلطة البعثية.

تفتقت افكارها الفاشية عن خطة جهنمية  تعبر عن ذهنيتها العنصرية وهو العقاب الجماعي للعوائل التي التحق أحد  أفرادها بالثورة ، وذلك بترحيلهم الى المناطق التي تستعر فيها رحى الحرب بين قوات البيشمركة  والقوات الحكومية، وتشكل حزاماً  من حقول الالغام  حداً  فاصلاً بينها. كانت تترك العوائل في تلك المناطق وتجبر على السير في حقول الالغام تلك صوب المناطق المحررة.

 في ذلك المساء سمعوا أهل البيت طرقات عنيفة على الباب، فخرجت الام لترى من هناك فكانوا أعضاء المنظمة الحزبية لحزب البعث في المنطقة، سألوا عن أبنها، فقالت انه في الجامعة وهو لا يعود في هذه الايام من السنة، فقالوا لها عن أي جامعة تتحدثين، وهل بقت هناك جامعة؟ قولي ان ابنك يحاربنا الان وهو مع الجيب العميل.  سقطت  الام مغشياً عليها.  سحبها أبناءها الى داخل البيت، و لم يعد يتذكرون كيف غادر قطيع المنظمة الحزبية، ولكنهم منذ ذلك اليوم بدءوا يتهيأون للأسوء.  واخذوا ينامون بكامل ثيابهم تحسباً لاي ضرف ربما يجبرون فيه على مغادرة منزلهم.

 حدث ذلك في نفس اليوم الذي علمت أبنتهم بأن هناك قصفاً وحشياً أصاب القسم الداخلي للطلبة في مدينة قلعة دزة وبعد ليلة من وصول رسول من ابنهم يعلمهم انه هناك.

 بعد أن أستفاقت الام ، ذهبت أبنتهم تبحث في جهاز المذياع علها تحصل على أنباء جديدة.  تأكد لها ما سمعت ذلك اليوم وكانت في غمرة انشغالها وذهولها، عندما دخلت والدتها لتقول " لقد سمعت كل شئ هناك قصف أصابت قلعة دزة؟؟؟" فبادرت بسذاجتها لتوضح ولكن كل الطلبة بخير؟؟!! .  ولم ترى سوى أمها تتهاوى أمامها دون حراك.

استطاعوا ان يعيدوها الى وعيها ولكن أبت قدماها أن يحملاها مجدداً، الا بعد ذلك بسنوات وبمعجزة.

 أزدادت الضغوط النفسية في الجامعة، حيث كانت أبنتهم تتعرض ورفيقاتها الى متابعة شديدة، كان يقوم بها الطلبة من الاتحاد الوطني وحرس الجامعة والذين كانوا على الاكثر أعضاء في أجهزة الامن والاستخبارات المختلفة للنظام.  توارد الى مسامعهم نبأ حصول أعتقالات في صفوف بعض الطلبة، كانوا أعضاء في أتحاد طلبة كوردستان وتعرف البعض منهم ، كانت أحدهم الشهيدة الخالدة ليلى قاسم وكانت قد تعرفت اليها قبل عام في رحلة أقامها الاتحاد بمناسبة السنة الدراسية الجديدة والتي كانت عادة مناسبة لكسب عناصر جديدة للاتحاد.  كما كانت تعرف ذلك المتحدث اللبق والذي كان يتحدث بلغة عربية بليغة يحسده عليها كل أبناء الضاد.  عندما كان مشرفاً من اللجنة المحلية لاتحاد طلبة كوردستان على عملية انتخابات لجنة الكلية لذلك العام وهو الشهيد البطل خالد الزهاوي. مع كوكبة أخرى من شباب كوردستان.  كانت تهمتهم انه كان قد تم تكليفهم بأعادة تنظيمات الاتحاد، وعثر على منشورات بحوزتهم؟؟!!.  ثم تم أعدامهم بعد محكمة صورية، وتعرضهم الى تعذيب وحشي حتى قيل ان الشهيد خالد الزهاوي والذي كان طالباً متفوقاً في كلية الهندسة ببغداد، قد كسر عموده الفقري. 

الكوكبة صعدت الى حبل المشنقة وهي تنشد "ئه ى ره قيب" .  وبذلك سجلت للفاشية البعثية السبق في أعدام أول أمرأة على أسس سياسية في الشرق الاوسط والعالم العربي.

ولتبقى روح شهيدتنا مناراً تنير به درب الاجيال المقبلة. وتلاحق قتلتها العار.

 كانت الثورة تحقق انتصارات كبيرة، بينما القوات الحكومية تتعرض الى خسائر فادحة . حتى قيل عندما زجت الحكومة بقوات خاصة تلقت تدريباً لمهام الصعبة، وحاولت انزالهم على خلف خطوط المجابهة، لم يصل أي منهم في تلك المناطق العصية حياً الى الارض.  حتى اصبحوا مادة للتندر في اوساط الثوار ، حيث كانوا يقولون فعلا انها خاصة في كونها لا تصل الى ميدان القتال الا وتكون جثة هامدة.  فلجأت السلطة الى طريقة ابشع وذلك باستخدام عوائل الملتحقين بالثورة من الكورد الفيلية  كدروع بشرية تربط على الدبابات عند اقتحامها القرى والمواقع، وأذكر منهم لا على سبيل الحصر، عائلة حجي  سوراب قياسي الفيلي و كانوا ينحدرون  من مدينة زرباطية وسكنوا بغداد منذ عهد بعيد.

كانت للعائلة المذكورة أبناً يعمل مديراً لبنك الرافدين ، فرع شيخ عمر، التحق بالثورة الكوردية.  فما كان من السلطة سوى ان تسوق الوالدين ليربطوا على الدبابات كدروع بشرية ، عند محاولتها اقتحام مدينة راوندوز الباسلة.  لم يصب اي من العائلة بمكروه في تلك الواقعة.  لكنه سقط شهيداً فيلياً كان ضمن قوات البيشمركة المدافعة عن المدينة الا وهو الشهيد البطل صلاح كريم وهو لم يكن قد بلغ العشرين من عمره وكان اهله يسكنون في مدينة الهادي ببغداد، تلك المدينة التي أكتسبت تسميتها من والد السياسي الوطني المعروف أحمد عبد الهادي الجلبي لان تلك الاراضي كانت عائدة له، ثم غير اسم المنطقة الى مدينة الحرية لاحقاً. ذلك الحي الشعبي الذي يتردد أسمه كثيراً هذه الايام في نشرات الاخبار؟!

 لم تكفي العائلة ما الم بها من مرض الام وحالة التوتر والقلق على أبنهم , وخاصة بعد أنقطاع أخباره.  فجاءهم نبأ أستشهاد قريبهم، اثار الخبر الصدمة والاستغراب، فقريبهم يسكن في أيلام ولم يعرف له اي نشاط سياسي، وكان رباً لعائلة ،و ما يزال في ريعان الشباب.  لم يفهموا ما الذي دفعه للالتحاق بالثورة؟! لكن الحقيقة كانت تقول أن ذلك  يعبر عن مدى التواصل بين الكورد في جميع ارجاء كوردستان، فكم التحق بجمهورية مهاباد ودافعوا عنها من الكورد من أجزاء كوردستان الاخرى وكم من شهيد سقط لتروي دمه الطاهرة ارض كوردستان الجنوبية (العراق) في ثوراته المتعاقبة،  دون ان تعرف تلك الفواصل الذي خلقها لنا الاخرون وأرادوا لنا أن نؤمن بها.

أحتارت العائلة كيف تقيم مجلس العزاء وعيون السلطة مفتوحة عليهم، فبقوا في حيرة  ، حتى حصل ان مات جدهم بعد بضعة أشهر فوجدوها مناسبة ليحيوا عزاءاً كبيراً لشهيدهم.  وكانت النسوة تلتقي في هذه المناسبات لتتناقل الاخبار بعيداً عن عيون المراقبين.  كانت المصيبة جماعية،  الجميع في قلق وترقب على مصير أمتهم ،ولم تكن تخلوا عائلة واحدة الا وكان بعض من أبناءها وعشرات من أقربائها ضمن صفوف ثوار البيشمركة. كانوا يعلمون أن المعركة المحتدمة هي معركة المصير والوجود.

 أنتكست الثورة وهي كانت في قمة أنتصاراتها، بعد ان تكالب عليها أعدائها ، وخانها من كانوا يحسبون من أصدقائها.  أضطرت السلطة الفاشية أن تتخذ قراراً، أقل ما يقال  عنه خاطئاً، أن لم نقل خيانياً بالتنازل عن شط العرب في مقابل ان توقف أيران دعمها  للثورة التحررية الكوردية عبر أغلاقها لحدودها، المنفذ الوحيد لامدادات التي كانت تصل الى الثوار وطرق أتصالاتهم بالعالم الخارجي. 

وقع صدام أتفاقية الجزائر المذلة الذي باع فيها ارض الوطن للاجنبي بدلا من  ان يمنح لابناء العراق من الكورد حقوقهم المشروعة.  تلك الاتفاقية التي كانت بوابة الجحيم التي فتحت في المنطقة ولم تغلق بعد.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com