في أدبيات وخطاب جماعات الإسلام السياسي هذه الأيام، هناك دعوات واضحة للجهاد وقتال المشركين والكفار (حتى وإن تعددت، وتشعبت المعايير التي يصنف على أساسها الناس كفارا ومشركين وأعداءً لله)، وإخضاعهم للدين القويم، أو فتح بلدانهم وجعلهم يدفعون الجزية "من يد وهم صاغرون"، وإقامة دولة الخلافة التي ستملأ الأرض عدلاً وحقاً وإيمان. والنزعة الحربية الجهادية الهجومية متأصلة في التنشئة والتربية العقائدية التي ينمو عليها أصحاب هذا التيار، وهي لا تقبل التنازل والمساومة في هذا. وتحفل الكتب والنشرات و"الكاسيتات" المنتشرة كالفطر، بهذا العنوان الذي تطرب له الأسماع، وتنتشي به العقول، والنفوس، والألباب. ويقضي هذا المبدأ الهام بالشروع في الجهاد والقتال، وعدم ترك السلاح، وذلك لنشر راية الإسلام في كل مكان، وعبر الآية الكريمة : قال الله عز وجل: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). وأيضا: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).
ولن ندخل في الجانب الديني، والشرعي لهذه الدعوة التي تعتبر من المقدسات الإسلامية المسلّم بها، كما أنه من غير الجائز شرعا نقضها أو التشكيك فيها وبقدسيتها. ولكن، بنفس الوقت، هل من الممكن مناقشة الأمر من وجهة نظر واقعية؟ أوليس من الواجب عقلانيا التمعن والتبصر، وفي ضوء الظروف التي يعيشها العالمان الإسلامي والعربي من الضعف والانشقاق، أن يتم التكيف بشكل موضوعي مع هذا المبدأ، وذلك، وببساطة شديدة، بسبب الخلل الكبير الحالي في ميزان القوى بين المسلمين و"الكفار" الذين هم موضوع الجهاد الأول، وهم، بنفس الوقت، مصدر تمويل المسلمين بالأسلحة والذخيرة، والعتاد، ولا يصدرون سوى الأسلحة منتهية الصلاحية، والتي فات وقتها وسحبت من الاستعمال. وعليه فإن أية مواجهة بين الطرفين، ستكون خاسرة ومحسومة سلفا، ومن العبث هدر الدماء الإسلامية الطاهرة بدون طائل في مواجهات غير متكافئة. فلقد أعلن صدام حسين، مثلا، الجهاد على أمريكا، وخطّ بيديه الآثمتين على العلم العراقي تلك العبارة المقدسة"الله أكبر"، التي لم تشفع له كثيراً، وعبّأ الجماهير المسكينة دينياً، بعد أن حشاهم إيديولوجياً بعقيدة قومية جوفاء، لعشرات السنين، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت الصواريخ الإستراتيجية لـ"الكفار"، تنهال كالمطر على رؤوس، وهامات أطفال، ونساء، وشيوخ العراق الذين لم يكن لهم لا حول ولا قوة على الإطلاق ولا سبيل أبدا لديهم للنجاة.
ولو توجهنا لفيلسوف الجهاد ومنظرّه الأول، وزعيم جماعة "الجهاد" المصرية سابقا، الدكتور أيمن الظاهري، والمختبئ حالياً، في أحد أوكار تورا بورا، التي يصدر منها أشرطته الجهادية، لرأينا بأنه ورّط، وضلّل مع زميله في الكهوف الباكستانية أسامة بن لادن، عشرات الألوف من الشبّان، ودعاهم لمنازلات خاسرة، وغير متكافئة، أودت بسحقهم تماماً أمام قاذفات البي52، وتسببت بفقدان حياة معظمهم تحت وابل الصواريخ الأمريكية، التي لم تكن تخطئهم البتة، ومن كتبت له الحياة، فقد كان مصيره أحد الكهوف المجهولة في الجبال الوعرة، أو ضيفاً غير مدلل في سجن غوانتانامو في الجزيرة الكوبية المؤجرة من الرفيق كاسترو.
ولكن، لا أدري، في نفس الوقت، فيما إذا كان قتل الأطفال المدنيين العزل، والأبرياء العراقيين، وجز رقاب الرهائن، والمختطفين، وما نشهده من تفجيرات في أماكن متفرقة من العالم، يندرج تحت راية الجهاد الذي يطرب له بعض من أئمة الجهاد، ويعتبرون كل تلك الدماء، والأنفس والأرواح، أهدافا مشروعة، وتخدم شعاراتهم المرفوعة على الأشهاد.
والسؤال المرعب، والأخطر لو تمعن العقلاء بعواقبه الكارثية، إذا ما أُخذ على محمل الجد، ماذا لو جابه علناً أحد جنرالات الغرب الموتورين، والعنصريين من اليمين الفاشي المتطرف بدعوات مماثلة لحروب دينية مقدسة، وانصاع للاستفزاز اليومي في وسائل الإعلام المشرعة لأئمة الجهاد، وقام بالرد عبر استعمال أسلحة فتاكة وغير تقليدية ضد ديار الإسلام، الذين لا يملكون وسائل الدفاع اللازمة لصد أي عدوان من هذا القبيل؟ ألا يجوز لنا هنا أن نشكر القوانين الوضعية التي تجرّم، وتحظّر مثل هذه الدعوات العنصرية والفاشية؟ وعندها هل ستكون النتيجة، في حدودها الدنيا، لصالح الداعين للجهاد؟ أم ستكون كارثة أخرى تحل بـ"الأمة" التي يعصف بها الانشقاق، والفراق، والحروب، والمنازعات، ويعشش بها الاستبداد، والتخلف، والخرافات والفساد، وتحكمها الديكتاتوريات، والقبضات المخابراتية، وأحذية الجنرالات؟ وهل هذه "الأمة" التي لم تتجاوز اختراعاتها "النقيفة"، والفؤوس، و"المقلاع"، بقادرة الآن على خوض حرب للنجوم، والنيترونات والإليكترونات؟ وماذا لو امتلك أحد أئمة الجهاد قنبلة نووية على رأس من سيرميها في الحال؟ وكم ثانية ستمكث في مستودعاته الحربية؟ ألا يشعر المرء أن الآخر "الكافر" متسامح بعض الشيء في هذا الإطار؟
وحين يمتلك أحدهم أية قوة، فسرعان ما سيستعملها ضد بني جلدته، كما فعل الرئيس "المجاهد المؤمن المقدام" صدام حسين مع "الشقيقة" الصغرى الكويت، واستباح حماها العذراء في ليلة مشئومة ليلاء، وما جره ذلك من تداعيات مأساوية سوداء. وبعد أن كان قد فرغ للتو من الانقضاض على جيرانه المسلمين في إيران في حرب طاحنة لم تبق ولم تذر لمدة ثماني سنوات عجاف، وما سببته من هدر وويلات. ووقف بعض الدعاة يخطبون ويصرخون و"يهتاجون" مزينين له تلك الفعلة الشنعاء. أو كما يستعمل بعض المتاجرين بالأديان الآن القوة الغاشمة العمياء، ضد شعوبهم العزلاء بالذات والتي تتجلى عنفاً، وقهراً، وعذابات، وإذلالاً، وإن القوة التي أمر الله بها أن تعد لمواجهة الأعداء، نراها تستعمل لقمع المناضلين والأحرار وإرهاب الأطفال، والشيوخ، والنساء.
إن مغالاة البعض في تفسير هذا المبدأ الإسلامي الهام، وعدم النظر إليه بتمعن وعقلانية، قد جلب، ويجلب عواقب وخيمة على المسلمين أنفسهم في كل مكان، ويضع الأمة الإسلامية في صف والعالم كله في صف آخر، ويولّد الكثير من نوازع الحقد، والتوجس والاستعداء، مع دول وأمم وشعوب كثيرة في العالم، قد تجعل الأمن والاستقرار العالمي على كف عفريت. وما نراه من توتر، ونزف دموي يومي في أرجاء متفرقة من العالم، هو بسبب قيام بعض الموتورين وقصار النظر بتوتير الأوضاع عبر إهمال واضح، وعدم تقدير بادٍ لتقدير القوة الذاتية، ومكامن القوة والضعف.
قد لا يكون هناك ، ومن حيث المبدأ، ضير أبدا في إعلان الجهاد، ولكن قبل ذلك كله يجب معرفة الذات بشكل جيد وإمكانياتها، وحدودها القصوى، وعدم التورط في مهمات أكبر بكثير مما يتوفر من قدرات، لأن ذلك يعني وببساطة، هزائم مذلة، ونكسات نكراء، وأما الخطاب والكلام الفارغ والمهاترات والعنتريات الجوفاء فلا قيمة له في معايير القوة على الإطلاق.