لا شك أنه، وفي ظل غياب آلية واضحة، ودقيقة للتمثيل السياسي العادل، والشامل، فإن كل من هبّ، ودبّ، وشبّ، وقبّ على وجه الأرض سيمتطي موجة المعارضة السورية السائبة، ومشرّعة الأبواب للمستثمرين والمغامرين السياسيين، وعشاق "البروظة"، والصالونات، والاستقبالات، وحضور المؤتمرات شريطة أن تكون في فنادق النجوم الخمسة المتلألئات. ويصبح، عندها، أي كان، متحدثا بالشأن السوري الهام، وحاملا تطلعات وآمال الفقراء، وناطقا باسم الملايين من الجياع، وهو بالكاد يعرف شوارع وأزقة مدينته، وحتى بدون أن يكون له أية تضحيات، أو انجازات، أو تاريخ واضح يدخله في عداد المناضلين الأشاوس وحماة الديار.
المعارضة السورية الجوالة، في عواصم القرار، تثير الحيرة، والريبة، والاستغراب، وما الذي يرمي إليه أداء بعض من هؤلاء. مؤتمر هنا، وآخر هناك، واجتماع في هذه العاصمة ودعوة لتلك، وكله كرمى لعيون المواطن الحزينة والذي لم يسمع، ولم يرَ شيئا من خير هذه اللقاءات. ولعل غياب الشفافية، والوضوح، والمباشرة، وطرح جميع القضايا، هي أبرز ما يميز هذه الاجتماعات. إضافة إلى الشللية، والتحالفات، والمعرفة الشخصية، والمحسوبية، وطغيان اللون، والاتجاه الواحد في عمل وطني، أقل ما هو مطلوب منه الشمول، والتمثيل العريض والتام. وحين يتكرم أحدهم بإصدار أي بيان، وهي مكرمة جاد بها البعض، ولكنه لا يحسد عليها بأية حال، تراه غائما، عائما، هائما، فضفاضا قيل على عجل واستحياء، فيما يمتنع البعض الآخر حتى عن مجرد تحديد مكان وزمان الاجتماع. ولعل الغموض هو اللغز الأكبر في تلك المؤتمرات التي تلتئم وتنتهي دون أن يعرف المعنيون، والمتابعون للحدث شيئا عن هذا الاجتماع. ولا يكلف المجتمعون الأفاضل أنفسهم عناء إصدار ولو نبأ صغير، وكأنهم يحتفظون بسر الأسرار، وإكسير الخلاص للناس. ويحتاج المرء عندها لأكثر من العفاريت، والمخبرين، والجان، وأشطر من قارئة فنجان، ليعرف عما دار في هذا أو ذاك الاجتماع، ومن حضر من الثقاة، والأتقياء حتى يطمئن الشعب المغلوب على أمره من السلطة والمعارضة على حد سواء، بأنه في أيد أمينة، واطمئنان، واستقرار.
فمن مؤتمر باريس الذي شابه الكثير من القيل والقال، إلى مؤتمر الدوحة الذي لم عرف أحد عنه شيئا، وكأنه قصة من قصص الغموض، والتشويق والإثارة لآغاثا كريستي، أو واحدة من حكايا شهرزاد لشهريار التي ستداوم على روايتها على مر الزمان، فإن الغموض، والتعتيم، والتكتم هي سيدة الموقف، وما سيواجه به أي فضولي حين السؤال عن هذه النشاطات في عصر الإعلام السريع والكلمة الصاروخ، والخبر العاجل الذي يخترق الآفاق، باستثناء مقال يتيم بعنوان "مؤتمر باريس وتصنيع الجواسيس"، كتبه د. أكرم شلغين ينفي فيه وجود تلك الشخصيات والأسماء المثيرة للجدل في مؤتمر باريس، ولكنه في نفس الوقت لم يعرج على ما دار من مناقشات، أو يقدم أية فحوى، أو إيضاحات عن الاجتماع المذكور. فمن حق السوريين جميعا، والمعنيين بمتابعة الشأن العام أن يعرف ويطّلع على مجريات هذه المؤتمرات، من مثل من دعا من؟ ومن يملك هذا المفتاح؟ ومن يقيّم الناس ويضعهم في خانة المواطنين المعصومين الشرفاء، ومن يكفر ويلغي آخرين ويصنفهم في خانة المشكوك بهم، والأعداء؟ ومن حضر؟ وماذا دار من مناقشات وحوارات؟ وما طرح من حلول ومقترحات وآراء؟ ولِمَ عقد الاجتماع أصلاً؟ ومن هي بعض من تلك الوجوه التي لا يعرف عنها الشارع شيئا ولا عن تاريخها ونضالها؟ أليس حريا، وتأكيدا للشفافة والصفاء، أن يكون كل هذا متاحا بشفافية للجمهور وللعوام، وللغلابة ممن تُمتطى رقابهم، ويتم الكلام بأسمائهم، ويضرب بسيفهم في فنادق "الستارز"، في مدن الأحلام؟
من حق البعض، وربما لأسباب أمنية مفهومة، ومبررة أحيانا، أن يتوارى بعيدا عن الكاميرات وعيون "الحساد" والعسس، والعرفاء، ولكن مجرد بيان، أو بلاغ للرأي العام لن يضير أحدا، ولن يصيب قوم بسوء على الإطلاق. فقد جرت العادة، في أدبيات وتقاليد الاجتماعات، أن يكون هناك ناطق رسمي، باسم أي مؤتمر، وإيجاز صحفي يومي عما دار من فعاليات. فلِمَ لا تغطى إذن إعلاميا، وصحافيا بالشكل الأمثل والتام؟ أم أن لدى القوم ما لديهم، وما يخفونه، وما يخجلون من إعلانه، وإطلاع الناس عليه؟ وهذه ليس مؤتمرات أمنية، ولا عسكرية، أو إستراتيجية لإعلان الحرب على العدو الغاشم، مثلا، كما لم، بل على العكس من المفروض أن يغلب عليها الطابع المدني، والعلني الشفاف. أما هذا التعتيم، والمداراة، والإخفاء فلا مبرر ، ولا هدف له، على الإطلاق؟ يريد الجميع أن يفهم ويعرف ماذا يجري بالضبط خلف الكواليس، والدهاليز، وفي هذه المؤتمرات؟ ولِمَ كل تلك الاجتماعات واللقاءات إن لم تسفر عما يهم ويشبع نهم الناس التواقين لمعرفة مصائرهم وما يخبئ لهم هؤلاء.
إن ادعاء التكلم باسم السوريين، وتمثيلهم، والتصدي لهمومهم ومشاكلهم يقتضي من أصحابه التواصل معهم، والتعامل معهم بشفافية، وإطلاعهم على موقعهم في "روزنامتهم" التغييرية الفصحاء، وألا يسلك سلوك من سبقوه في هذا في إقصائهم والتنكر لهم، لأنه ببساطة سيصل لنفس المأزق الذي يعيشه الجميع الآن