|
المثقف والسلطة .. علاقة معقدة وثورة خفية فينوس فائق / هولندا
الثقافة عملية متواصلة و متعددة أو شاملة الجوانب ، و هي عملية يختارها الإنسان لنفسه ، ليس قدراً يلقاه يوماً ، من غير الممكن القول أنني صرت مثقفة بالصدفة ، أو أن قدري كان أن أكون مثقفة ، الثقافة هي إختيار ، تماماً كالتوجه السياسي ، فكما يختار الإنسان طريقاً أو منهجاً سياسياً يناضل فيه و يمشي فيه ، نفس الشيء تماماً بالنسبة للثقافة و المنافذ التي يختارها لتثقيف نفسه. رغم أن السياسة فرع من فروع الثقافة ، و ليس العكس ، إذ لا يمكن القول أن الثقافة هي جزء من السياسة ، بكلمات أخرى من غير الممكن أن تكرس الثقافة نفسها لخدفة السياسة و إنما من الممكن أن نبلغ الأهداف السياسية بواسطة الثقافة ، بشرط أن لا تتعارضا ، فلو تناولنا المسألة من هذه الزاوية نجد أن السياسة و السلطة السياسية تنطلق من داخل الدوائر الثقافية و حتى أن نهاياتها تكون هناك ، و ليس العكس بحيث تتحكم السلطة السياسية في قدر المثقفين ، و أن تتحكم السياسة و السلطة الحزبية في قدر المثقف ، أو أن تتحول الثقافة الحزبية و السياسية إلى الثقافة المشاعة في المجتمع ، ففي تلك الحالة تتحول الثقافة إلى ثقافة سلطوية و تتحول شيئاً فشيئاً إلى ثقافة دكتاتورية تفرض مفاهيمها في أطر حزبية و سياسية حزبية ، بحيث تسد كل منافذ الثقافة الأخرى و تتحول في النهاية إلى أداة لممارسة أبشع أنواع القهر و الكبت الثقافي. وعندما يقف المثقف في جبهة الضد من السياسة أو السلطة السياسية ، فذلك معناه أن السلطة السياسية قد تحولت إلى مصدر خطر و يشكل تهديد على العملية الثقافية بمعناه الواسع و الشامل.. ما من شك أن الثقافة بمقدورها دائماً أن تجيب على أسئلة السياسة على إعتبار أن السياسة هي جزء أو فرع من فروع الثقافة ، بالرغم أن ما يربط عالمي الثقافة و السياسة هو نوع من الجدلية المعقدة القائمة على مبدأ تقويض الثقافة و هدرها داخل الدوائر السياسية.. من جانب آخر هناك نوع من التعقيد و الغموض اللذان يلفان نوعية العلاقة التي تربط بين عالمي السياسة بمعنى السلطة و الثقافة ، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة الإصلاح ، بكلمات أخرى إذا أردنا إجراء الإصلاح هل يجب إجراءه على السياسة أم على الثقافة؟ من أين يجب أن نبدأ؟ من الحاضر؟ أم من الماضي؟ بمعنى بالعودة إلى أخطاء الماضي و تصليحها ، أو ترك الماضي لأنه أصبح ماضي و البدأ بمسيرة سياسية أخرى صحيحة و أن نكتفي بإصلاح العلاقة بين الثقافة و السياسة.. يقول (قاسملو) السياسي الإيراني المعروف الذي أغتيل عام 1989 في فيينا مع رفيقيه ، يقول : لو كان أجدادنا ناضلوا بشكل صحيح لما تعبنا نحن اليوم ، اي أن شكل النضال السياسي في الشرق جاء بالخطأ ، أو أن الممارسة السياسية في تلك المنطقة تخللتها أخطاء تأريخية نعاني اليوم من تبعاتها و نتائج تخبطاتها المستمرة.. يذهب الكثير من المحللين و المفكرين إلى وجود نوع من الجدلية حول العلاقة بين السياسية و الثقافة من ناحية و من ناحية أخرى تكبيل السياسة بسلاسل السلطة و إبعادها عن عالم الثقافة ، بمعنى آخر أن تحرر السياسة من السلطة يجعلها تنزل إلى القاعدة بين عامة الشعب و الذي يساعد بعد ذلك على إرتقاء السياسي إلى مقام الثقافي.. فحين تكون السلطة و الحكومة و الدولة و كافة مؤسساتها في متناول السياسي فقط من دون محاولة خلق حالة التوازن الحقيقية في الحكم و تحقيق كل مطاليب جميع فئات و شرائح المجتمع ، و للأسف هذه الحالة شائعة في نوعية الحكومات الشرق أوسطية ، لأن السياسي بالمفهوم الشرق أوسطي يعطي لنفسه كامل الحقوق حتى و إن لم يكن كامل الأوصاف ، لسبب بسيط في نظره و هو أنه حاكم ، و أنه يجمع كل السلطات في يده ، السياسية منها و حتى السلطات غير السياسية .. إن العلاقة بين السلطة و الثقافة كانت على مدى التأريخ علاقة معقدة و متغيرة ، فأحياناً كانت الثقافة سلطة ، و أحياناً أخرى تكون السلطة ثقافة ، فأن تكون الثقافة سلطة فتلك حالة لا خلاف عليها كثيراً لأنها في كل الأحوال ستكون نابعة من القاعدة نحو القمة ، لكن أن تكون السلطة هي الثقافة فتلك هي المشكلة ، لأنها ستكون مختلقة ، من الأعلى نحو الأسفل .. فحين تتحول السلطة السياسية إلى ثقافة تمنح لنفسها كل الإمتيازات ، و حين تجمع بين طياتها كل الأبعاد الثقافية الأخرى و تعطيعها تعريفاً معيناً لا يتغير مهما تغير الزمن ، و يطلق عليها تسمية واحدة هي السلطة السياسية ، حين ذاك يقع المثقف في دوامة أولاً مع نفسه لأنه فشل في أن يمتلك السلطة أو أن يحول السلطة من سياسية إلى ثقافية ، و ثانياً مع العقلية السياسية التي ترفض التعريفات الأخرى لمفهوم السلطة و تحتكر كل مجالات السلطة و ترمي بالثقافة في الهامش. حسب الكثير من التعريفات تعتبر الثقافة ترويض للنفس و الأخلاق ، في حين أن هذا الهدف ينتفي في العالم السياسي ، على إعتبار أن السياسة فن الخدع و هي من التسييس ، و عملية التسييس غالباً ما تدخل فيها أفعال و ممارسات مثل المراوغة و المسايسة و المساومة و المخادعة و التظليل و ما إلى ذلك ، بعكس الثقافة التي لا تقبل المزج بين لونين.. من هنا يمكن القول أن السلطة السياسية في الشرق تقوم غالباً على أساس معاداة أو تهميش المثقف ، لأن الثقافة في المفهوم السياسي السلطوي الشرقي هي بمثابة التهديد أو المنازع ، لأن الثقافة تفتح أبواب بدون حدود معينة ، في حين أن السلطة السياسية تقوم على مبدأ سد الأبواب التي قد تأتي منها رياح لا تشتهيهاً ، و لأن السياسة محتكرة في الشرق في مجموعة معينة ، و الثقافة حق مشاع للكل ، و لأن السياسة في الشرق تقوم على أساس تبادل المصالح بعكس الثقافة التي ترفض المصالح . على هذا الأساس ليس بإمكان السلطة السياسية بأي حال من الأحوال الإجابة على الأسئلة الثقافية ، في حين أن بإمكان الثقافة الإجابة على كل الأسئلة السياسية و فك رموزها. و الذي يجعل السياسي في خطر أو يشعر أنه في خطر عندما تكون الثقافة بدون حدود ، و هذا ما يحدث الآن في ظل التكنلوجيا و إنفتاح الأبواب الثقافية الألكترونية ، الأمر الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى إندلاع ثورة من نوع آخر ، ثورة خفية و بدون ملامح بين السلطة السياسية و الثقافة. في المجتمعات التي تمتزج فيها السلطة و السياسة في أحضان الثقافة ، مثلما يحدث في الدول المتقدمة و الدول الأوروبية تحديداً ، تكون تلك قمة الرفاه الإجتماعي ، على عكس ما يحدث في الشرق ، حيث أن السلطة السياسية تساعد على التطورات القشرية ، و تبقي على اللب أو قلب المجتمع عاجزاً عن يضخ دماء التطور في شرايين الشعب ، فيبقى عاجزاً عن أن يسأل السؤال الأول في سلسلة التدرج الثقافي نحو الأسئلة الأكبر التي تربط بين عالمي السلطة و الثقافة و إشكالية العلاقة بينهما ، و محاولة فك رموزها و تعقدياتها. ففي كل الأحوال الثقافة هي بمثابة القوة التي تخرج طاقات الإنسان و تثبتها من أجل التغيير و الإصلاح المطلوب ، في حين أن السلطة السياسية في الشرق تعمل على تعطيل كل الطاقات البشرية التي تحاول التغيير و الثابت الوحيد في المعادلة تبقى هي المصالح السياسية خارج دائرة الثقافة. لأن الثقافة في كل الأحوال أيضاً تقوم على إيمانها بكل الحريات بدون حدود و بدون تحديد شكل معين لتلك الحريات ، في حين أن السلطة السياسية لا تؤمن إلا بالحريات التي هي ترسم ملامحها و تحدد حدودها ، و هذا يتعارض مع المباديء الثقافية.. حتى السلطة التي تقوم على أنقاض الدكتاتوريات في الشرق غالباً ما تفشل في فك التعقيد القائم بين الثقافة و السلطة لأنها أساساً لم تتخلص بعد من عقدة المصالح.. لذلك فإن أول خطوة إلى تقويض دكتاتورية "السلطة السياسية" في الشرق و إبطال مفعول التعقيد الذي يلف علاقتها بالثقافة هي أن تتولى الثقافة السلطة ، بمعنى أوضح أن تقوم السلطة السياسية على أسس ثقافية شاملة تلبي كل حاجات عموم الشعب بمختلف توجهاته الفكرية و الثقافية و مستوياته الطبقية ، لأن السلطة الثقافية لا تقوم على التفريق بين طبقة و أخرى على غرار ما يحدث عند السياسي الذي ينظر يمنظار الحزب و يحكم بمقاييسه ، في تصزري أن المصالحة بين السلطة السياسية و الثقافة تتم حينما تنعدم كل المسافات بينهما و يتحقق التلاقي على أرض محايدة تكون أول مفرداتها الحكم للثقافة ، و ذلك حلم بعيد المنال في الوقت الحاضر في الشرق ، لأن السياسي غالباً ما يكون مستعداً لأن يتخلى عن البعض من مبادئه و أسلحته و أدواته السياسية من أجل مصلحة ما ، في حين أن المثقف الحقيقي من غير الممكن أن يكون مستعداً بأي حال من الأحوال لأن يتخلى عن مبادئه و قيمه و أدواته و أسلحته السياسية من أجل غاية سياسية ، و إذا حدث ذلك تكون النهاية ، و تكون تلك أخطر مرحلة في عمر شعب عجز عن يحل الإشكال القائم بين السلطة السياسية و أبجديات الثقافة الحقيقية ، هذه الحالة التي تأسس لثقافة عقيمة أخرى هي تحصيل حاصل عدم إمكانية التواصل و التفاهم بين عالمي الثقافة و السلطة السياسية تسمى بثقافة المحو الثقافي التي تأكل كل الأدواة الثقافية من أجل المحافظة على سيادة سلطة السياسة..
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |