|
الفتوى بين المحاصرة والمصادرة ياسر سعد- كندا تراجع مفتي مصر عن فتوى بتحريم التماثيل في البيوت إثر حملة انتقادات عاصفة تعرض لها. تراجع المفتي يكشف الاحوال الماسأوية والتي آلت إليها المؤسسات الدينية الرسمية في غالبية بلاد المسلمين والضغوط الهائلة التي تتعرض لها, لتحولها الى مؤسسات هلامية همها الاساسي ووظيفتها الرئيسية, تطويع الدين ليتلاءم مع رغبات مؤسسة الحكم ومشاريعها ومواقفها. الدكتور علي جمعه مفتي مصر أفتى -او بالاحرى عبر عن فتوى قديمة ومعروفة- بتحريم تزيين المنازل بالتماثيل مستندا إلى الحديث الشريف الذي أورده البخاري ومسلم «أن الملائكة لا تدخل بيتا به كلاب أو صور»، وجدد جمعه تمسكه بموقفه في ندوة عقدت مؤخرا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حول «الشريعة والإرهاب», مشيرا إلى أن هناك فتاوى لمفتين سابقين تحرم التماثيل ومنهم الشيخ هريدي والدكتور نصر فريد واصل وكذلك الشيخ جاد الحق علي. وأكد جمعة في الندوة تحريم التماثيل استناداً إلى أن الرأي الغالب لدى الأئمة هو تحريمها، مشيراً إلى أن هناك رأياً ضعيفاً بعدم التحريم. وزير الثقافة المصري فاروق حسني وهو فنان تشكيلي رد على المفتي مفندا فتواه بقوله أن التمثال صورة مجسمة وإذا تم تحريمها فمعنى ذلك تحريم الصور، وينسحب ذلك على كل أشكال ومفردات الفن وعلى الصور التي تنشرها الصحف والمجلات للشخصيات وغيرها. ونوه حسني إلى أن التمثال قيمة فنية وهو في الأساس يجسد نوعا من المحاكاة لما خلقه الله سبحانه وتعالى، كما أن تماثيل الشخصيات التاريخية مثل سعد زغلول ومصطفى كامل وغيرهم, صنعت لتمجيد بطولاتهم في ذاكرة الشعوب. وأشار وزير الثقافة إلى أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استند إليه المفتي في فتواه كان المقصود به تحريم تماثيل الجاهلية التي كانت تستخدم للعبادة ولا ينسحب على تماثيل العصر الحالي الذي تصنع بغرض الفن وتمجيد شخصيات أثرت في تاريخ شعوبها. وطالب فاروق حسني بأن تتسم الفتوى بذكاء العصر مشيرا إلى أن المفتي رجل متفتح وهو يكن له كل الاحترام. المفكر محمود أمين العالم استغرب فتوى المفتي وقال: لن أرد على مثل هذه الفتوى التي تندرج في ثقافة الجاهلية، أنا مندهش كيف يصدر هذا عن رجل تعلم في فرنسا وأعرف أنه مستنير ومتفتح ومحب للحياة، إن التماثيل لها قيمة فنية كبيرة، وهي ركن أساسي في كل الحضارات التي شكلت وعي الإنسانية. الفنان والناقد التشكيلي عز الدين نجيب صاحب كتاب «فجر التصوير المصري الحديث» ادلى هو الآخر بدلوه واصفا فتوى المفتي بأنها رجعية وتجاوزها فكر العالم بما في ذلك المسلمين في الدول الأصولية المتشددة مثل إيران التي تحتفي الآن بالفنون الجميلة بما فيها التصوير والنحت ناهيك عن السينما. وأضاف عز الدين أن هذه الفتوى وأمثالها تذكرنا بعصور الظلام في القرون الوسطى، ولا حاجة للمجتمع من قريب أو بعيد إليها. اما الكاتب سامي خشبة نائب رئيس مجلة «الثقافة الجديدة» وان اعترف بأنه ليس فقيها، غير انه قال: كيف تصدر مثل هذه الفتوى، إن نظرة بسيطة للتاريخ الإسلامي تؤكد أن ازدهار الدولة وبخاصة في أواخر الدولة الطولونية حتى الفاطمية أرتبط بازدهار الفن، فهناك الكثير من الرسوم للطيور والحيوانات في الكثير من متاحف العالم مثل اسطنبول في تركيا –في زمن سلاطين بني عثمان المعروفين بأنهم «سنيون متشددون»- وفي إيطاليا ومتحف الفن الإسلامي بمصر. مع الضغوط الكبيرة والتي مورست عليه (ومنها ما قد يُخفى علينا) و"الارهاب" الفكري والذي حوصر به اضطر المفتي د. جمعة وفي برنامج تلفزيوني الى التراجع عن موقفه وفتواه، قائلا ما خلاصته أن هناك آراء تحرم التماثيل وأخرى تبيحها ونحن نأخذ بفكرة الإباحة مبررا ذلك بأنه الحل الأمثل للخروج من الخلاف وضرورة التعايش مع مقتضيات الظروف التي يفرضها الواقع. فتوى التماثيل والتراجع عنها تظهر وبوضوح ضعف المناعة وعدم قدرة المؤسسة الدينية الرسمية على المواجهات في امور بسيطة فما بالك بالمواقف الصعبة والحاسمة والتي تطلب مواقفا صارمة وواضحة. كما ان القضية تكشف الجرأة الكبيرة على الدين وعلى تفنيد الفتاوى وردها واطلاقها من شخصيات ليس لها في هذا المضمار ناقة ولا جمل. بطبيعة الحال ليس لإحد ان يرغم او يكره كائن من كان على الالتزام بفتوى او بأمر شرعي خصوصا اذا كان الامر يتعلق بالامور الشخصية داخل البيوت الخاصة, فتطبيق الاحكام الخاصة امر يتعلق بالعلاقة بين العبد وخالقه, ولكن ان تصل الجرأة ببعض العلمانيين على الافتاء او فرض فهمهم المغلوط للدين واحكامه على المفتي فالامر مثير لمشاعر السخط والاستياء. امثال هذه المواقف تدفع ببعض الشباب المحبط من الاحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية البائسة الى مزيد من الابتعاد عن العلماء خصوصا من كان لهم صلة بالجهات الرسمية واخذ زمام المبادرة واصدار الفتاوى والتزام مواقف قد تؤدي بهم الى تطرف حقيقي. من المؤلم ان الدور المامؤل لعلماء الامة ورموزها يتضاءل يوما بعد آخر. وفي وقت تتكالب على امتنا الازمات والمصائب والرزايا, نجد ان علماء الامة ودعاتها هم الغائب الاكبر عن الساحة حضورا وتأثيرا بل لا تكاد تسمع لهم حتى همسا. والامر ليس محصورا بالعلماء الرسميين والحكوميين بل ويشمل كثيرا من الجماعات الاسلامية "المعتدلة" وممن يوصفون برموز الصحوة الاسلامية. في مسألة الانتهاكات بحق القرآن في غوانتناموا لم نلحظ تحركا او تنديدا ولو لفظيا من غالبية الاطراف الاسلامية حكومات وجماعات وعلماء -الا ما رحم ربي- الا بعد تصريح كونداليزا رايس بان الامر اذا ثبت فهو غير مقبول. وفي قضية الكارتون الدانماركي تحمس الدعاة والعلماء وتبلورت المبادرات وانعقدت المؤتمرات اشهرا بعد نشر تلك الرسوم إثر تحرك حكومات اسلامية واتخاذها مواقف مندده بتلك التجاوزات والاساءات. في الماسأة العراقية الدامية والمتواصلة وفي ظلال فتنة الحرب الطائفية والاعداد الغفيرة من الضحايا المتساقطين وبشكل يومي والانتهاكات بحق المقدسات وحرمات المسلمين والجرائم المرتكبة في حق فلسطيني العراق, نجد ان مواقف غالبية العلماء متطابقة مع مواقف الحكومات متلخصة بغض البصر والإعراض والسلبية المطلقة. الامر يتكرر في قضية استهداف السودان وتمزيقه من بوابة دارفور. وفي مسائل الاستبداد والفساد الاداري والعبث بمقدرات الامة وهدر ثرواتها فيما البطالة تنهش مستقبل شبابها والفقر والفاقة ينخران في كثير من مجتمعات المسلمين مخلفين مآس اخلاقية واجتماعية خطيرة, يلتزم علماؤنا او الكثير منهم بحكمة ذهبية السكوت فيما يتم إغفال السلوكيات والمواقف الشجاعة والصادحة بالحق والتي يتم من خلالها الرقي بالامة الى خيريتها والتي تتجسد في "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر". سلبية قطاع من اهل العلم وغيابهم عن ساحاتهم هو الذي يدفع بالعلمانيين وانصاف المتعلمين الى التجرؤ على حدود الدين واحكامه.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |