ديمقراطية أم كونفدرالية للعراق

                                           د. علي الدباغ

Ali@aldabbgh.com

aldabbagh_2000@yahoo.com

لا أحد ينكر بأن ماحدث في العراق من سقوط النظام الشمولي الأقوى في المنطقة والذي كان زلزالاً أحدث هزاتٍ إرتدادية لاتزال تفعل فعلها في الداخل العراقي وما جاوره من دول الإقليم، هذا الزلزال كان عاصفاً ومدمراً لم يبقٍ ولم يذر شيئا فقد تهدمت أركان الدولة الى القواعد ونٌهبت نهباً.

وكان لابد من نقطة بداية لإعادة بناء الدولة على اٌسس مقبولة وعادلة من قبل الإدارة الأمريكية التي أعلنت نفسها كقوة إحتلال ترتب عليها إلتزامات قانونية لم تستطع الوفاء بها. ونتيجة سوء فهمٍ أمريكي لواقع العراق ومايتفاعل تحت السطح إتجه البناء لتقاسم السلطة على اٌسس طائفية وعرقية كحل وقتي لتقاسم السلطة بدل إستئثار مجموعة واحدة بها أو إقصاء اخرى عنها لحين أن تُجرى إنتخابات تفرز أغلبية انتخابية (سياسية أو طائفية) تتولى إدارة العملية السياسية على قواعد متوافق عليها تحفظ حقوق الآخرين ولكي نكون منصفين لابد أن تكون هناك جردة حساب ومراجعة ذاتية شجاعة لحصاد ثلاث سنين لنلتمس مواطن الضعف والخلل في هذه المسيرة لكي يتم معالجتها وإحتواؤها وأول مواطن الضعف هو تعريفنا وفهمنا وقبولنا جمعاً للديمقراطية، فأي ديمقراطية نريد هل هي مباشرة؟

 أم توافقية؟ ام تلفيقية؟

 أم توافق قيادات سياسية تفرز حالة تراضٍ بعيداً عن ماتفرزه صناديق الإنتخابات؟.

ويبدو إن حالة التوافق الثلاثية (شيعة وسنة وأكراداً) هي الحالة الغالبة والسمة السائدة منذ أول إنتخابات أفرزتها الصناديق في 30 كانون الثاني 2005 ويدافع أصحاب هذه النظرية عنها بأن بلداً متعدد الأعراق مثل العراق لايمكن أن تحكمه إلا نظرية توافق يطمئن بها الفرقاء لحقوقهم بأن لا إقصاء ولاتغييب لهم وهذا رأي فيه نظر، لأنه وببساطة هناك حلولاً اخرى يمكن من خلالها تشييد بناء سياسي على اٌسس غير أثنية أو عرقية ولا يٌسمح لهما بان يكونا سيدا الموقف وبذلك يتراجع ثم يتلاشى وفي النهاية يضمحل الحديث عن الأثنيات والعرقيات والمذاهب ولا تصبح هذه الهويات (والتي لانعتبرها ضارة بل هوية ثانوية تسبقها هوية أساسية وهي المواطنة) هي مصادر فرز وخيارات، وخير دليل على ذلك الهند الذي هو أكبر وأنجح ديمقراطية في الدول النامية ويتميز بالتنوع أثنيا ولغويا ودينيا بصورة تفوق العراق وأي بلد آخر ولكنه تجاوز الحالة الدينية والعرقية وأرسى ديمقراطية مباشرة واعدة ومن المتوقع أن تحقق نموذجاً ناجحاً، أما إذا كان أساس البناء عرقي أو مذهبي كالذي يحصل في العراق الآن فالتنازع فيه غير محكوم بقواعد أو مرجعيات لأن القوة قد تكون فيه حاكمة أو العلاقات والإرتباطات الدولية أو ترابط المصالح الحزبية وقد يزيد حقاًً أو يٌنقصه، وفي غياب الدولة القوية -التي لم تعد قائمة في بغداد- والتي يمكن أن تنظم توزيع السلطة بنظرية التوافق فان هذه النظرية محكومة بشكوكٍ وتجاذبات وقد أثبتت تجربة ثلاث سنون صعبة بأن هذه النظرية لم تحل أزمة ولم توفر إستقراراً لأحد حيث كان تشكيل الحكومة الإنتقالية عام 2005 مخاضاً عسيراً تمت فيه ترضيات توافقية لاحدود لها ونشأ مدٌ وجزرٌ كبيرين على صلاحياتٍ ومواقع وإمتيازات نشأت بسببها عُقدٌ تم تأجيلها وكانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى وتخلق أزمات.

وكذلك الدستور الذي حكمته نظرية التوافق خرج منه سٌنة العراق حانقين وغاضبين ورفضوه بصورة جمعية والكرد (الرابح الأكبر من هذا الدستور) يقولون بأنهم لم يحققوا مايطمحون اليه والطرفان الكردي والسني أخذوا من صلاحيات الأغلبية الشيعية وتقاسموا سلطات كانت يمكن أن تكون من حق هذه الأغلبية لو حكمتها الديمقراطية المباشرة وعلى ذلك فالشعور الشيعي الآن بأنهم دفعوا لآخرين من إستحقاقاتهم، وبذلك فالجميع يشكوا بصورة حقيقية، وليعذرني القارئ الكريم في الإستخدام القوي لهذه المفردات والتي تترسخ مع الأسف في الخطاب السياسي العراقي بصفتها الطائفية وليست بصفتها الثقافية الإنسانية.

والآن هناك أزمة كبرى تحيط بتسمية رئيس الوزراء ويٌطلب من أحد الفرقاء الآن تناسي ما أفرزته الديمقراطية وآلياتها ووضعها جانباً والذهاب الى توافقٍ لاتحكمه قواعد وقوانين بل يبقى خاضعاً للقوى التي تجلس على الطاولة وهي متغيرة كل يوم بحجم قواها، وهذا أمر مقلق ومنهج لانهاية ولاحدود له ويفتقد لنقطة نحتكم اليها.

من الواضح ايضاً بأن هذه التجاذبات هو سباق وتنافس من أجل تقاسم السلطة في مراحل تأسيسها لكي يحصد كل طرف خيوط قوة ويتمسك بها فنرى بأن البعض يسعى لفرض فلاتر كثيرة على القرار يستطيع من خلالها أن يمنع ويشل صلاحيات مجلس الوزراء وهذا انتقاص كبير لما فرضته صناديق الإقتراع في 15 كانون الأول الماضي.

إذن نحن أمام عقدٍ ونهايات تكاد تكون مغلقة وسنواجه مستقبلاً هذا النوع من العقد بدرجة أكبر نتيجة إعتمادنا نظرية توافقية وقد آن الأوان أن يعترف الجميع وبصورة شجاعة بأن ما تم إعتماده من إسلوبٍ توافقي يتجه بنا الى تدهورٍ حاد وسريع في الوضع الأمني والسياسي ودائماً تكون النتائج وليدة المقدمات ووليدة المنهج الخطأ وسيعرض مروجي منهج التوافق العراق لأزمات كبيرة جداً من هذا النوع مستقبلا وفي كل إختلاف وتضارب في المصالح، خصوصا عند النظر في تعديل الدستور خلال المرحلة القادمة ولابد لنا أن نراجع جميعاً بوقفةٍ متأنية بأننا كعراقيين لم نستطع أن نحل أزماتنا بهذا المنهج ولم تستطع الإدارة الأمريكية التي تمتلك أهم المفاتيح أن تحل أزمتنا في الحكم وأزمة وجودها في العراق ويبدو أن مقياس التفاؤل قد تراجع عندنا وعندهم بصورة خطيرة فشعور المواطن بالأمن قد تراجع وتهاوت الخدمات من كهرباء ومحروقات وبطاقة تموينية الى مستويات دنيا لم تبلغها من قبل واصبح الحديث يدور علناً وليس همساً عن الحرب الأهلية التي نجح العراقيون وبصورة شجاعة ومذهلة أن يحاصروها لحد الآن على رغم أهوالٍ عصفت بهم وكادت أن تطيح بوحدة العراق وبالتأكيد سيقاومون من يروج لها.

ولكي نتجنب الإنزلاق أكثر نحو هاوية مخيفة، لابد أن نلتمس الحلول، وليس بالضرورة أن تكون الحلول بعد الأزمات كما حصل في يوغسلافيا أو لبنان أو الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الأهلية، لأننا وببساطة شديدة لسنا مستعدون لتحمل وِزرَ وثمنَ الأزمات فقد دفعنا أثماناً كثيرة منها في المقابر الجماعية وحلبجة وفي حروب طويلة ومسلسل تجويع وحصار وطواحين موتٍ كثيرة، لذلك فأمامنا خياران وعلينا أن نختار أحد الحلين المتعاكسين:

1.    القبول بديمقراطيةٍ مباشرة يكون فيها الصندوق هو الحكم العدل الذي نلتجأ اليه لحل النزاعات ويكون التمثيل السياسي بموجبه وبذلك ندفع جميع الكيانات السياسية دفعاً طوعياً لأن يتشكل العراق على أساس فهم سياسي تحكمه مشتركات سياسية وليس مشتركات مذهبية أو أثنية وسيصطف الجميع في تشكيله إن عاجلا أو آجلا وبذلك سنتخلص من مأزق تخندق قومي أو طائفي يهدد وحدة العراق ويقود الجميع الى  فهمٍ متنورٍ وصحيح للإنتماء الديني والمذهبي وأن لاتكون هذه الهويات الثانوية سبباً للتباعد أو التناحر وحتى التفاضل، بل يتم توظيفها في خدمة مشروع سياسي متنور ووسطي ومتحضر يحترم التنوع وثقافة وأدب الإختلاف، وبذلك ننزع فتيل أزمات  تضغط علينا.

2.    عندما يعجز الجميع من إقرار والقبول بديمقراطية مباشرة تحفظ وحدة العراق وترتقي به الى دولة متحضرة يكون البديل هو شكل ثانٍ من أشكال الحكم يكون بديلاً عن تقسيم العراق يتم تصميمه لنحفظ شكل الكيان العراقي وهو حل شبيه بالكونفدرالية نلتجأ إليه مضطرين طوعياً وبسلام لننتهي من هذا النحر اليومي للعراقيين (وهو في إزدياد مستمر) حيث الجزء الأكبر منه هو رسائل سياسية تعبر عن رفض للمشروع السياسي الذي يتعثر بإطراد ويلاقي معارضة ليست قليلة من البعض لأنهم يرفضون معادلة حكم جديدة للعراق ويريدون للعراق أن يحكم بالمعادلة السابقة أو بمعادلة اخرى لاتحتكم لنتائج صناديق الإقتراع وبذلك فان هذا الحل الكونفدرالي سيكون منقذاً للعراق الذي سيعاني من عُقدٍ لاحصر ولاحدود لها لأننا لانزال  نرى أشخاصا يريدون تغيير الدستور ليتناسب مع شخص محدد ويريد البعض أن يٌلغي رغبة أغلبية بالفيدرالية ويفرض رؤيته الخاصة على الآخرين، وفي هذا النظام الكونفدرالي ستنتهي مشكلة البعض الذي يتهم الأكراد يتمددون على السلطة الإتحادية في بغداد بالإضافة الى أنهم شبه مستقلين في كردستان.

لابد لنا أن نقرأ المستقبل من زاوية المواطن العراقي الذي هو الهدف وهو الغاية وكل ماحوله من وطن وكيانات هي لإسعاده ومن أجل بناء مستقبل يعيش فيه بأمان وسلام وكرامة انسانية رسمها له خالق الكون جل ذكره.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com