وصل الاستفشار السلطوي، وعرض العضلات، والتحدي والبطولة، والهجوم المعاكس للأمن السوري ذروة أخرى باعتقال الصديق والكاتب محمد غانم، من أهالي وسكان مدينة الرقة الفراتية السورية. وهو مدرس، وقاص، وإعلامي، وكان يدير بنجاح موقع سوريون الإليكتروني. كما أنه ربّ أسرة مؤلفة من عدة أطفال، واحتفل قبل أشهر قليلة، بدخول ابنه البكر كلية الطب البشري، وكم كانت فرحته عارمة بذاك الإنجاز العائلي الرائع الذي حققه برغم ظروف الإفقار، والتعتير، والحصار. ولا نملك سوى أن نهنئ هؤلاء الأبطال الأشاوس، والمغاوير الصناديد، الذين حققوا هذا النصر الوطني، والفتح العسكري الخالد باعتقال العزّل، وأرباب الأسر المنكوبة التي رزحت تحت نير أنظمة لا تراعي حرمة، ولا تأبه أبدا لكرامة الإنسان.
وتوحي كل تلك الأنباء والقصص المؤلمة، والمحزنة عن اعتقالات، وملاحقات، ومحاكمات، وتوقيفات، بالجملة، والمفرق، و"دوكما"، تجري في سوريا هذه الأيام لمختلف نشطاء المجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وصحفيين، وكتاب، بحسم قاطع، وربما نهائي، لكل خيارات السلطة، ورسالة عريضة بعودة قوية للخيار الأمني، الذي أشيع سابقا عن تحجيم دوره، ولجم اندفاعاته، وقصر مهمته على القضايا المتعلقة بدحر الإمبريالية العالمية، والصهيونية الغاشمة.
وقد أضحت هذه الأنباء بفعل تكاثرها، وتواترها اليومي، أشياء عادية ليس فيها من دهشة، أو إثارة، وأصبحت تشكل، بالتالي، المادة الإعلامية الأولى التي تواجه أي متتبع عادي للشأن السوري. وإذ هي على هذا الشكل من السفور، والكمية، والعلنية الكيدية أحيانا، فهي تحمل على الاعتقاد الجازم، بأن كل ما أطلق من وعود، وتعهدات قد ذهبت هباءً، وأدراج الرياح. كما تحفل الكثير من النشرات والبيانات الصادرة عن منظمات حقوقية سورية، وإقليمية بكل ما يدّعم تلك الأنباء، التي اتخذت من المعالجة الأمنية وسيلة وحيدة، وأداة يتيمة للتصدي لكل أنواع الحراك السياسي، والمجتمعي، والثقافي الذي يعتمل تحت السطح.
إعادة الاعتبار، واللجوء، ومن جديد، لتجربة سالفة بكل ما فيها من حمولات ثقيلة، وممارسات، ونتائج وخيمة أقصت المجتمع المدني كلية عن المشاركة في القرار السياسي، وعطلت قواه الفاعلة، وتركت آثارا سلبية مدمرة على شرائح متعددة، وغير محددة من الناس، ومهدت الطريق، وأفسحت المجال لاحقا لقوى النهب المافيوزية المنظمة للفتك بالاقتصاد الوطني وتركه جثة هامدة بلا حراك. ناهيك لما كان لتلك التجربة من منعكسات سلبية خطيرة على الصعيد الاجتماعي، والمتمثل بالآلام العائلية، وتفكك الأسر، وتفريق الشمل، وتغييب العائل الوحيد، وبث اليأس، وخلق روح الإحباط، والرغبة في الانتقام، الذي يراكم شعورا عاما يهدد بانفجارات مستقبلية، على غرار ما حصل في الكثير من الأنظمة ذات الطبيعة المماثلة. كما يُعد، وفي ظل متغيرات إقليمية جوهرية، فشلا في مواكبة، وتلبية استحقاقات هذه المتغيرات، وانصياعا طوعيا لكل إفرازات تلك التجربة، وتبنيها، والدفاع عنها، واصطفافا نهائيا في موقع مضاد للتطلعات الديمقراطية، والشعبية الوطنية. كما يؤكد على إهمال، بل وانعدام الخيارات الاخرى، والوسائل البديلة، والتي بُشر بها مطولا عبر سيل خطابي إعلامي عرمرم، لم يبق منه، في الحقيقة، سوى صدى خفيف وخجول، بعد أن كان قرعا لطبول إصلاحية صاخبة، ذابت في وحشة التحولات المثيرة، والانعطافات السياسية الكبرى التي واجهت مسيرة نظام بدأ يتآكل باستمرار.
ولقد أوصل سابقا، "تغول" الأجهزة الأمنية، وتفردها بالقرار، وتحللها من شتى أنواع الرقابة والسيطرة، وعدم خضوعها لأي توجيه وإشراف عام من قبل المؤسسات الدستورية والقانونية والشرعية، إلى ما هو عليه الحال من تأزم وعزلة خارجية، وإساءة بالغة لمصالح الوطن، وطلاق بائن ما بين الشعب والنظام، وإلى مأزق إقليمي ودولي محكم الإغلاق. ويلاحظ من السياق، للمتتبع للتطورات على الساحة، أنه، وبالرغم من ازدياد حدة اللجوء للحل الأمني، فإنه لم يقابل شعبيا، بذاك النوع من الخوف، والخضوع، والنكوص المأمول والاستسلام. وعلى العكس من ذلك تماما، فإن الحراك الاجتماعي والسياسي كان يزداد طردا مع شدة "الحراك" الأمني، مشيا على المبدأ العلمي الفيزيائي القائل بأن رد الفعل، هو حتما بحجم وقوة الفعل ذاته. وبأن الناس لم يعد لديها ما تخسره بعد الآن، بعد أن خسرت كل شيء، والأهم فرصها القليلة، والنادرة في حياة حرة وكريمة، وكل أمل أيضا في التغير والإصلاح. وهذا يعني أن تلك الفورات الأمنية المتعاقبة لم تحدث هدفها المطلوب في تمويت الرغبة الجماهيرية الكامنة بالانعتاق، وبث الرعب في النفوس، وهذا ما يزيد في إحراج النظام إقليميا، ودوليا، ويعتبر تنصلا من كافة وعوده بتحقيق انفراج ما.
ربما كان هذا حلا مؤقتا، وراهنا، يبعث رسائله المعهودة بالتخويف والترهيب، واستعراض العضلات، وإظهار الثقة المهتزة التي تزيدها اهتزازا هذه الممارسات، ويحمل للبعض رسائل وهمية من الاطمئنان، لكنه بكل الأحوال، ومهما حقق من أغراض آنية، فليس هو بالتأكيد، الخيار الأفضل، ولا طوق النجاة لمن يواجه احتمالات الغرق، في عباب هذه البحار الهائجة المائجة عاتية الأمواج. ومن يشرب الآن نخب الانتصار الزائف، وتسري في أوصاله قشعريرة النشوة العابرة، وزهو الغرور المخادع، و يفضل الترنم بأغنية نجاة "ما أحلى الرجوع إليه" للمضارب الأمنية المغلقة مرة أخرى، فإنه، لا بد سيردد، يوما، مع نزار، بعد أن تصله الأمواج العاتيات، "إني أغرق"، وأغرق في بحر الحماقات السياسية.