|
العاصمة عنكاوا .. وشجرة الحب الكوردي المسيحي الوارفة محسن جوامير ـ كاتب كوردستاني بين الفينة والأخرى يقرأ المرء من هنا وهناك مقالات وكتابات لأشخاص ضاجعهم الهم والتبرم وكبرعليهم ماحققه شعب كوردستان من إستقلال وتقدم نسبي بالمقارنة مع سالف الزمان وعهد الدكتاتورية وفرض العبودية والفكر الواحد الأحد الذي لم يات الدهر بمثله ولا يتناهى نظيره من بعد إلى الأسماع وألاذان .! فتجدهم يفتعلون الأكاذيب والجعجعات ويسبكون القصص التافهات ويصورون الوضع وكأن المسيحيين الكوردستانيين يعانون من عذابات الكورد ويئنون تحت وطأة الضربات الماحقات، بلداتهم مغصوبة وأراضيهم للكورد مملوكة وحقوقهم مهضومة ولسانهم مقطوع وقلوبهم من إهانات الكورد مفجوعة وكل الإمتيازات عنهم ممنوعة، ولو لم يتدخل سعادة البابا أو كوفي عنان والملل المتحدة والبلدان وبالسرعة الممكنة، فانهم سوف يبادون من قبل الدب الكوردي وأمرهم إلى الله بعد أن فات الأوان ! أنا عندما كنت يافعا وغضا وكان يقال لي بأن الكورد اُجبِروا على الدخول في الدين الإسلامي بالسيف وعلى أسنة الحراب، كنت أصَدِّقُ، ولكن كان يخطر على بالي دائما سؤال مُلِحْ ممزوجا بشئ من الشك والتردد المشبوب بالحموضة والمِلحْ : يا تُرى إذا أجْبرَ الإسلام الناس على إعتناق الدين بالسيف والرماح قبل أكثر من 1400 عاما، فماذا كان موقع اهل عنكاوا " بلدة تقع الآن في داخل مدينة هه ولير العاصمة ونسمتها 20000 مسيحي " في تلكم الحقب ولِمَ لم يستسلموا وبقوا على دينهم ؟ فهل كانوا هم اقوى من الكورد وأكثر مالا وولدا، وقاوموا واستبسلوا فردُّوا كيد المسلمين ردا، جماعات وفردا، إذا كانت المسألة فقط تنحصر في العدد والقوة دائما وأبدا ؟ في حين قلما تجد مدينة أو قضاء في كوردستان خاليا من المسيحيين سواء كثروا او قلوا عددا.. ثم كنت أساءل نفسي: طيب، بعد إنسحاب الجيش الإسلامي، ألم يكن بمقدورالكورد المسلمين الجدد معاملتهم كسلفهم بالشكل الذي كانوا يريدونه ويجبرونهم خوفا او طمعا على إعتناق الإسلام كما حصل لهم حيث خضعوا للإسلام ومدوا له أعناق الذل مدا.؟! وطبيعي أن إطلاعي من بعد على الإسلام وأصوله ومصادره ودراستي له في أوروبا وقد قضيت اكثر من ثلث عمري فيها ومن خلال المقارنات، حَلاّ لي الكثير من الإشكالات الفكرية وهَدَتني الأعوام إلى فتح آفاق كنت أتوق إليها والتي شغلت حيزا كبيرا من إهتماماتي. وبدا لي بجانب ذلك أنه بمجرد توفر الجو المنفتح والديمقراطي، يصبح الإنسان أقرب إلى المنطق والعقل والصواب في تحليل القضايا بعيدا عن العواطف وما فيها من مزايا.. ويبدو كذلك أن نعمة الديمقراطية التي بدأت تهب برياحها على المنطقة عبر نافذة كوردستان بالرغم من سلبيات ما رافقها بعد إنهيار الطاغية من طغيان، تترشح عنها طروحات واقعية تقترب من المنطق التأريخي السليم البعيد عن إلإطارات الجاهزة النابعة من فكر وشعارات الأطراف والأحزاب والآيديولوجيات القوية والعاجزة.. على الرغم من كوني بعيدا عن البلد، ولكني لست بمنأى عما يعطي الفكر والدراسات هناك من تقييمات تختلف عن سابقاتها المؤطرة سلفا، فكوردستان سبقت العراق بالتعامل مع الواقع والفكر والتأريخ بحرية بأكثر من عقد فيما يخص الدراسات التأريخية مثلا، وبالأخص ما يمس تأريخ الكورد قبل الإسلام وبعده ودور الأخير ومؤثراته على شعب كوردستان.. ولكن الجديد بالنسبة لي كان حوارا اُجري مع المؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد ونشر كاملا في موقع " كسكوسور " من غرب كوردستان. بالرغم من كون المؤرخ من كوردستان أصلا ولكنه نشأ ودرَّس شطرا من حياته العلمية في الجامعات العراقية وربى بالتالي أجيالا من الطلبة وتخرج على يديه عدد غفير من الأساتذة والدكاترة. هذا الحوار الذي سبق وأن اشرت إليه وأستعرض فقرات منها بشئ من التقديم والتأخير للتقرب من الهدف، يتعرض إلى خطوط جد هامة تمس تأريخ كوردستان مع الإسلام بصورة عامة، ويمكن حسبما أعتقد أن يكون مدخلا إلى دراسات أوسع. ففي معرض رد الدكتور مظهر على سؤال المحاور: هناك رأي يقول بأن الكورد إلتزموا بالدين الإسلامي وحافظوا عليه واخلصوا له أكثر من بعض الشعوب، لربما هذا كان سببا في عدم حصول إتفاقيات مع الأجنبي ؟ يقول الدكتور كمال : " إن الكورد دخلوا الإسلام مخلصين على أقصى درجة، وليس ذلك لأن الكورد يختلفون عن غيرهم، لا أبدا، ولكن علينا أن نبحث عن الدوافع الحقيقية التي جعلت من الكورد أن يكونوا مخلصين للإسلام.. قلت لك بأنه في ظل الساسانين كان الكورد في وضع سئ للغاية، فعندما جاء الإسلام لم يأخذ منهم شيئا، بل أعطاهم اشياء خلصهم من هذا الحكم الجائر، ولم يتدخل في شؤونهم، لذلك أخلصوا للدين الإسلامي على درجة كبيرة، وفعلا ادوا دورا متميزا في الحضارة العربية الإسلامية، والعديد من الأعلام في الحضارة العربية الإسلامية هم في الأصل كورد، وهذا لم ينعكس سلبا على الواقع الكوردي لأن الحالة كانت هكذا يومذاك بالنسبة للكورد وغير الكورد.. " . وعن وضع كوردستان قبل مجئ الإسلام وعمن كان يحكمه، يجيب الدكتور كمال قائلا : " قبل مجئ الإسلام، ذكرت بأن أهل المنطقة كانوا يحكمون المنطقة على شكل إمارات وعلى شكل دول إلى أن إندحر الميديون في القرن السابق ق.م على يد الساسانيين، حيث بدأ التراجع السياسي في تأريخ الكورد القديم. في ظل الإسلام رجعت الحالة إلى ما كانت عليها في السابق، يعني مثل الشعوب الإسلامية الأخرى، الخلافة ما كانت تتدخل إلا في أثناء الحرب. إن الأمير الكوردي كان يقدم عددا من القوات المسلحة ومقدارا من المال لخزينة الدولة، وإنهم كانوا يتمتعون باستقلاليتهم الكاملة ". وعن الأسباب التي لم تساعد الكورد على تشكيل دولتهم، يجيب الدكتور كمال : " أقول دائما وأنا مقتنع به وعلى اسس علمية وإستنباط التأريخ أن ثورة أكتوبر جلبت الخير لجميع شعوب المنطقة ما عدا الكورد مع الأسف الشديد، وهم ما كانوا يريدون ذلك، ولكن السياسة مصلحة. الإتحاد السوفيتي اصبحت لها حدود مشتركة مع إيران لمسافة 2500 كم وحدود مشتركة مع الدولة العثمانية وتركيا فيما بعد لمسافة 700 كم، فكان على الإتحاد السوفيتي أن يحسب هذا الحساب ". ومما يضيف على جو وطبيعة النوروز في هذا العام جمالا، قوله : " إنهيار الإتحاد السوفيتي أعطى نتائج سلبية للجميع ما عدا الكورد، يعني جاء لصالح الكورد. إنتهى القطبان، فالآن القوى الغربية لا تحسب ذلك الحساب لإيران وتركيا كما كانت تحسب الحساب لهذين البلدين أثناء وجود الإتحاد السوفيتي، فهذا عامل مساعد، وأصبح الكورد فعلا رقما على الساحة، رقما يحسب له حساب. فمن هذا المنطلق أنا متفاءل " . وفيما يخص ملامح ثورة الشيخ عبيدالله النهري، يقول الدكتور : " كانت حركة النهري اتخذت إتجاها متسامحا مع الاقليات المسيحية، وهذا شئ مهم، فنحن عندما نتحدث عن حدث تأريخي علينا أن نضعه في إطار الزمان والمكان ". بناء على ما ذكره الدكتور كمال مظهر والذي كان عرضا سريعا للتاريخ الكوردي، فان القرائن تدل على أن قبول الإسلام من قبل الكورد بشكل عام كان طوعيا أكثر من كونه إكراها أو إجبارا، بدليل بقاء الكثير من المذاهب والأديان وأتباعهم في كوردستان وهم يمارسون طقوسهم وشعائرهم بحرية ويحتفظون بأماكن عباداتهم، ومن ثم يتعايشون مع الكورد المسلمين ويشاركونهم في الأرض والمصالح المشتركة.. حتى يمكن القول بان ظاهرة التعايش بين الكورد الزرادشتيين وغيرهم قبل الإسلام كانت وفق الضوابط الخلقية والإنسانية والروحانية التي كان يحملها كل دين على حدى، وبموجبها تأصلت العلاقات والأواصر بينهم ـ وقد بدا لي هذا الأمر أكثر وضوحا من خلال مكالمة على الإنترنيت مع الأستاذ الكاتب صفوت جلال. ولعل من نافلة القول هنا وفيما يخص حرية المذاهب والأديان غير الإسلامية في العالم الإسلامي، الإشارة كذلك إلى إجماع العديد من الكتاب والمفكرين الغربيين على ان السبب عائد إلى السماحة المنطلقة من آية : ( لا إكراه في الدين ) وما ترشح عنها من قواعد وتأصيلات تشريعية وواقعية للتعامل مع غير المسلم. ودخول الكورد في الإسلام طوعا وبالتدريج إبتداء من تأريخ 16 هـ ـ 637 م ـ يؤكد عليه الكاتب السير مارك سايكس، كما جاء في كتاب خلاصة تأريخ الكورد وكوردستان " ص123 ـ النسخة الكوردية " لكاتبه محمد أمين زكي بيك . وهذا لا يعني بأن التحول كان سهلا ميسورا في حال وجود اكبر قوة عظمى ساسانية محاربة في المنطقة حينذاك، فلا حرب من دون دماء وخروقات وأخطاء حتى من حاملي أقدس المقدسات في الدين والفكر، وطبقا لذلك فمخاض الإنتماء الجديد لم يكن يسيرا ولا عرسا، ولكن العبرة بالعموميات. وفي جنوب كوردستان تحديدا تجد حالة التعايش بين الكورد المسلمين وغيرهم سواء كانوا كوردا أو غير كورد، مسلمين أو غيرهم، ممتازة لا تشوبها شوائب التعصب او الإكراه والنفور، بل الكل محترم بعقيدته ومذهبه ودينه، والكل يحب أرضه ووطنه، ويشارك في بناءه.. وكما كان منير البعلبكي صاحب أحد أرقى المعجمات الإنجليزية العربية أو المفكر أدوارد سعيد أو آخرون لا يفرقون بين إنتمائهم العقيدي وعروبتهم، وكذلك مسيحيو كوردستان لم يفرقوا بين إنتماءهم المذهبي وكوردستانيتهم.. فالكثير منهم ضحوا وسجنوا واغتيلوا كما حصل مع الكورد، ولازلت أذكر السيد الفاضل لازار " صاحب مخزن للملابس والعطور في شارع المظفرية " وهو من عنكاوا وكان شيوعيا وكان البعثيون يجُرونه وراءهم بخسة ودناءة إلى مقر الحرس القومي في هه وليرعام 1963 وقد رأيت هذا المشهد باُم عيني، وكان بيتنا لايبعد عنهم أكثر من مائة متر آنذاك وما كان صراخ المُعَذَبينَ يُفارقنا. وكذلك أذكر طبيبا إنسانيا بارعا هو الدكتور حبيب المالح وقد صفيَ في الثمانينيات، هذا الرجل لم يحن رأسه يوما ما للنظام، وكانت عيادته ملجأ للفقراء والمساكين المسلمين في هه ولير، وكان قد تعرض للسجن والتعذيب قبل إعتقاله الأخير والقضاء النهائي عليه. والكثير من أطباءهم لم يدخروا أي وسع في معالجة البيشمركة سرا. ولا أحد من جيلنا ينسى الدكتور الحبيب آكوب الذي كان من أوائل أطباء الأطفال في هه ولير. هذا ولم تسع هذه المقالة ذكر رجال آخرين أبطال من السليمانية وكركوك وكويسنجق ودهوك وشقلاوة " بيترمه " ومناطق أخرى من كوردستان، كانوا في قافلة التحدي ضد الظلم، وفي مسيرة الدفاع عن وطن مغلوب على أمره. لذا فاذا كانت المسألة مسالة صراع بين ناس وحاكم سقط وهوى، فالكل كانوا في العذاب والإضطهاد سَوَا. فالطاغية لم يفرق بين مسلم وغيره في التهوين والتشريد، مثلما لم يُقصِّر في تقريب من خضع لجبروته والإغداق عليه بالعطاء سواء كان مسلما أو مسيحيا، عربيا أو كورديا. والثغرات التأريخية لا تلغي القاعدة، خاصة بعد حكم جائر طال أمده وإمتدت جرائمه إلى كل زاوية من زوايا الحياة وشملت كل شريحة في المجتمع بغض النظر عن الدين أو القومية أو المذهب او الحزب أو الطيف، وترك أطنانا من المشاكل. أليست كركوك مشكلة بين مسلمين طُردوا منها ومسلمين جِئ بهم ؟ ولا بد أن أذكر هنا بكل خير أول معلم لي في اللغة العربية في مدرسة المظفرية في هه ولير، الأستاذ النطاسي حنا عبدالاحد روفو " وهو يناهز التسعين " الذي يشغل الآن منصب " الشماس " في عنكاوا، وقد تملأه السعادة وهو يقرأ لتلميذه مقالة بالعربية وتغمره البهجة وهو يحس بأن جهوده أثمرت وإن كانت تلكم الثمرة متواضعة، ولكن لعلها تكون متدلية ـ ولو قليلا ـ على كفيه الناعمتين الحبيبتين إلى إلقلب والقلم والبيان والآداب الجامعة. وكم سعدت حينما شاهدته في التلفاز وهو يلقي أبياتا من قصيدة بالكوردية كان قد كتبها أيام زمان وهو يُحَمِّسُ الكورد لليقظة والتقدم في ركب الحياة ليعيشوا في عز وأمان. ولحسن حظ مسيحيي كوردستان النجباء، فان خلاصهم من ظلم الطاغية كان في وقت مبكر نسبيا ونيلهم حقوقهم يكاد يفوق حقوق جميع مسيحيي المنطقة.. فانهم يدرسون بلغتهم ويمارسون أنشطتهم الثقافية والسياسية والأدبية بأنفسهم، ولهم ممثلوهم في الحكومة الكوردستانية والبرلمان، ناهيكم عن وجودهم في كل المناصب والدوائرالحساسة، فهم حاضرون في كل مجالات الحياة الكوردستانية سواء العامة او في السياسة. ولله الحمد، مجتمعهم متماسك، ونادرا ما تجد بينهم سائلا أو مسكينا أو فقيرا أو بائسا. ويمكن إعتبار بلدة عنكاوا التي تقع اليوم في قلب العاصمة هه ولير، كيانا ذاتيا يديره أهله من دون تدخل احد، ومن هذه البلدة الصغيرة الجميلة والكبيرة في الوزن والدلالة تنطلق قناة عشتار الفضائية للقريب والأبعد. وقبل إطّراح القلم نقول للذين يريدون شق صفوف الكوردستانيين، وللمواقع التي تنشر لهؤلاء نكاية بالكورد وليس كذلك حبا بالمسيحيين، أن يزوروا كوردستان ومنها عنكاوا عاصمة الأحباب المسيحيين بعد الفاتيكان، ويروا من دون عَنَت معالم أطيافها المؤتلفة ويلتقوا العلامة الشماس ماموستا حنا روفو ليروي لهم قصة علاقة قرن بين الكورد والمسيحيين من القرون السالفة، ليدركوا أن وجود كيان كوردستاني مستقل هو في صالح الكل من كورد وكلدان وآشوريين وتركمان من نساء ورجال وعلماء دين وقساوسة واساقفة.. حينئذ يعلمون من الكذاب الأشر وحبيس النفس الخائفة.! وحسبهم عندئذ أن يتعلموا أن الأواصر الكوردية المسيحية سواء قبل الإسلام أو بعده ما كانت أبدا زائفة، والكل يهنأ في ظل شجرة الحب والتآخي الوارفة!
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |