|
أسباب (الردة) الأمريكية عن تطبيق الديمقراطية في العراق علي آل شفاف في البدء، لقائل أن يقول: إن أمريكا كانت، ولم تزل "براغماتية"، تجعل مصلحتها محورا لسياستها، فما الذي ارتدت عنه؟ والجواب: إن هذا الارتداد، هو ارتداد عن الشعارات الظاهرية التي حاولت أمريكا عن طريق تسويقها، بسط نفوذها على العالم. وعندما تقف هذه الشعارات حائلا دون توسع النفوذ الأمريكي، سترتد أمريكا ـ عمليا ـ عن التظاهر بتطبيقها. مع علمنا بهامشية وضحالة العمق (الواقعي) لهذه الشعارات في مقابل المصلحة، في العقلية السياسية الأمريكية. سأتناول "العراق" باعتباره نموذجا لارتداد أمريكا ـ الواقعي ـ عن التظاهر بتطبيق الديمقراطية فيه، لكونها ستؤدي ـ وفق حسابات معينة ـ إلى تهديد المصالح الأمريكية، في منطقة تدعم حكم الأقلية الطائفية فيه، مع عدم قدرة البدلاء المتوقعين على تقديم أنفسهم كقوة قادرة على تعويض أو معادلة أثر القوى الإقليمية المحاربة لتطبيق الديمقراطية في العراق. لقد أسقطت أمريكا "صداما" لحسابات خاصة بها، جاءت ـ في هذه النقطة خصوصا ـ متوافقة مع مصلحة الشعب العراقي ـ برضاه أو رغما عنه ـ لكن المفاجئ لأمريكا أنها وجدت لدى الشعب العراقي نزوعا دينيا، لم تحسب حسابه، وخصوصا لدى الشيعة! وهي بالتأكيد لا ترضى المتدينين الشيعة بديلا عن "صدام". ليس كرها بالشيعة، ولا حبا بالسنة؛ فكلاهما لا يعني لأمريكا شيئا، إلا بالقدر الذي يحقق فيه أي منهما مصالحها. وهذا ـ على الأغلب، من وجهة نظري ـ ما جعل الأمريكان يقيلون "غارنر"، الذي حاول أن يعطي العراقيين دورا مبكرا في إدارة شؤون بلادهم ـ بعد (خيمة الناصرية) ـ وقبل الوقت المناسب أمريكيا. فأتوا بعده بـ "بريمر" الخبير في شؤون الإرهاب لمعالجة الموقف. فكان أول ما بدأ به، هو إعادة كبار مجرمي مخابرات صدام، من المتخصصين في شؤون الأحزاب الإسلامية ـ الشيعية خصوصا ـ لمكافحة وتحييد من يفترض أنهم سيكونون حلفاء المستقبل. وهكذا، كان "بريمر" بحاجة إلى الوقت لكي يصل بالأمور إلى ما يريد، فحرص بالاستعانة بـ "الإبراهيمي" على أن تكون حكومة "علاوي" توافقية ضعيفة. لأن الحكومة الضعيفة ستكون مبررا كافيا لبقاء قواتهم، لحين تفصيل الخريطة السياسية العراقية، وفق مقاسات مصالحهم. كان الأمريكان ـ بعد ستة أشهر من حكومة "علاوي" في موقف لا يحسدون عليه، إذ لا بد لهم من تطبيق الديمقراطية التي قد تأتي بمن لا يرغبون به. ولأن اكتساب الشرعية الانتخابية يعطي زخما قويا للسلطة المنتخبة، مما قد يشجع نزوعها للاستقلال التام، وبالتالي تثبيت الواقع العراقي الجديد، الذي يهدد مصالح حلفاء أمريكا في المنطقة؛ كان لزاما على أمريكا أن تتلاعب بنتائج الانتخابات الأولى، كما فعلت في الثانية فيما بعد، من أجل أن لا يحصل أي كيان سياسي على الأغلبية التي تمكنه من إنشاء حكومة قوية. وهكذا كانت حكومة "الجعفري" توافقية وضعيفة على الرغم من الجهود الكبيرة التي قامت بها. فقد كان للتوافقات التي فرضت تشكيلة هذه الوزارة وسابقتها الدور الكبير في نخرهما وإضعافهما من الداخل بدرجات متفاوتة. فقام بعض (وزراء التوافقات) ـ وبأوامر من أحزابهم الشمولية ـ بإضعاف حكومة الجعفري، والعمل على إفشالها وحتى محاربتها، لكونها لم تحقق مطامعهم. وهذا ما تريده أمريكا للحكومة القادمة أيضا، من أجل تغيير الواقع السياسي الجديد، عن طريق غرس روح التشكيك، وعدم الثقة لدى الناخب العراقي. لكي يغير خياره بما يخدم المصالح الأمريكية، التي ستلمع المرغوب به إقليميا وبالتالي أمريكيا (بحكم ترابط المصالح)، مستخدمة وسائل إعلام حلفائها ـ في المنطقة ـ التي تحاول توجيه الرأي العام العراقي والعربي، ومن ثم إدارته بالاتجاه الذي تريد. يرى البعض أنه كان على سياسيي الشيعة أن يتعاملوا مع الأمريكان ـ منذ البداية وتحسبا للارتداد الأمريكي عن شعار الديمقراطية في العراق ـ وفق (استراتيجية مزدوجة) سياسية وعسكرية؛ يعرضوا فيها بديلا عراقيا واقعيا، يشعر أمريكا بالاطمئنان إليه من ناحية، والخوف من تجاهل حقوقه، من ناحية أخرى. وذلك، عن طريق العمل السياسي والعسكري المتزامن، بحيث يكون العمل العسكري داعما للموقف السياسي التفاوضي، وضاغطا على الأمريكان، لفرض تنازلات حقيقية، من أجل تحقيق المكاسب السياسية التي تطمح إليها قواعدهم الشعبية. كان بامكانهم استخدام ورقة التيار الصدري ـ مثلا ـ بعد (عقلنتها) وتقويتها وجعلها تحت السيطرة لكي تستخدم ـ من خلال السيطرة عليها عن بعد ـ كعنصر ضغط تفاوضي على الولايات المتحدة. وقد كان بإمكان "حزب الدعوة الإسلامية" ـ خصوصا ـ القيام بهذا الدور لقربه المعنوي من هذا التيار. لكنه، وعلى الرغم من تأريخه النضالي الكبير؛ لم يكن بمستوى مصيرية الحدث. فكان أضعف همة، وأقل قدرة، من أن يقوم بمثل هذه المناورة السياسية الكبيرة. وكذا الأمر مع "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" الذي يناظر الأول تأريخا ونضالا. فقد أبدى أول بوادر عدم إدراكه لمفصلية المرحلة التأريخية التي يمر بها العراق، وضيق الأفق السياسي، من خلال نزعه لسلاح "قوات بدر" وحلها، وتحويلها إلى مؤسسة مدنية أسماها "منظمة بدر"، دون أي مكسب سياسي أو مقابل، ودون أن يحسب حساب التوازنات السياسية في المنطقة ككل، والتي أعادتهم ـ فيما بعد ـ إلى المربع الأول، كأقلية مضطهدة. فقد كان من الممكن استخدام هذه القوات المدربة جيدا والمسلحة بالأسلحة الثقيلة، كعنصر تفاوضي ضاغط، كما هو شأن "البيشمركه" الكردية، مع عدم حشره في أي معركة داخلية. وهذا ما فعله الأكراد في العراق، وما فعله "حزب الله" في لبنان. وبهذا برهن البدلاء ـ المحتملين ـ الذين ستأتي بهم الديمقراطية ـ وهم الشيعة ـ أنهم غير قادرين ـ لحد الآن على الأقل ـ على تأمين المصالح الأمريكية في المنطقة (والمقصود هنا، عند تواردها مع المصالح العراقية وليس على حساب المصالح العراقية). الأمر الذي يحتاج إلى حزم وشدة وحنكة، للتغلب على المعارضة التي ستبديها الجهات المضادة إقليميا. إذ عليهم معادلة كفة خصومهم السياسيين والطائفيين، إذا ما أرادوا طمأنة الأمريكان، وبالتالي تأمين عدم تدخلهم السلبي في خيار الشعب العراقي. على العكس من ذلك، فإن البعثيين هم الذين طبقوا هذه "الإستراتيجية المزدوجة"، واستثمروها أحسن استثمار . . وهاهي اليوم تأتيهم بثمارها. فقد أقنع البعثيون ـ وبدعم من أغلب دول المنطقة ـ الأمريكان، عن طريق هذه (الإستراتيجية)، بأن التطبيق المباشر للديمقراطية في العراق ليس من مصلحة أمريكا، لأنه سيقود إلى تغيير النظام السياسي العربي القائم منذ قرون. وتغييره قد يؤدي إلى نتائج لا تصب في خدمة المصالح الأمريكية، التي أثبتوا للأمريكان أنهم قادرون على تهديدها من جهة، والحفاظ عليها من جهة أخرى، اعتمادا على النفوذ الكبير لحكومات وشعوب المشرق العربي ومصر، التي عبئت ضد الشيعة، كما هو معلوم. إن تغيير المعادلة السياسية في العراق، الذي يمثل ثقلا تأريخيا حضاريا وجغرافيا وسكانيا كبيرا في المنطقة، قد يؤدي إلى قلب الواقع السياسي فيها، بما لا يقبل به أتباع أمريكا في المنطقة. وبالتالي ستفقد أمريكا الحليف الذي يمثل ثقلا أكبر فيها، مما يعني إعاقة الطموح الأمريكي في حكم العالم والسيطرة عليه، انطلاقا من سيطرتها على مصادر الطاقة الحيوية التي تحتويها هذه المنطقة، وبما يضمن لها انقياد الدول الكبرى في العالم، التي تعيش أسيرة لحاجتها الملحة والدائمة لمصادر الطاقة. لذلك كله، وكما هو متوقع، فقد عمدت أمريكا إلى تغيير استراتيجي في خطتها ومشروعها الذي ظاهره نشر الديمقراطية في كافة أرجاء المعمورة؛ فارتدت عنه وتعاطت إيجابيا مع الحكومات الدكتاتورية التي تحقق مصالح أمريكا، كحكومة باكستان وغيرها، وتغاضت عن التزوير الفاضح في الإنتخابات كما حدث في مصر وغيرها، بل وتلاعبت وزورت إرادات الشعوب، كما فعلت في العراق، عندما تلاعبت بنتائج الديمقراطية فيه. ثم قامت بالالتفاف عليها عن طريق بعض الفبركات التي ترضي حلفائها الإستراتيجيين، من قبيل خلق هياكل سياسية غير دستورية، ومنحها سلطة القرار. مصادرة بذلك القرار من السلطة الشرعية والدستورية، التي اختارها الشعب عن طريق الانتخاب الحر. وبذلك ستتمكن الولايات المتحدة من خلال هذه (الفبركة) أو الفذلكة السياسية من إعادة الكفة لصالح حكم الأقلية الذي يكافح حكام المنطقة من أجل استعادته، و الحفاظ عليه من التغيير، لأنه الضامن لبقاء عروشهم. لابد ـ إذا ـ للأمريكان ـ وكنتيجة لما سبق ـ أن ينقلبوا على شعارات الديمقراطية في العراق، إذا لم يكن اليوم، فغدا، أو بعد غد، أو بعده. هذه هي النتيجة المنطقية التي سيصل إليها كل من يعي التوازنات السياسية والسكانية الطائفية في منطقتنا، و"براغماتية" السياسة الأمريكية التي تتمحور حول تحقيق مصلحة أمريكا. فالثقل السكاني في المنطقة ليس لصالح الشيعة، وإن كانوا أغلبية كبيرة في العراق؛ وكميات النفط الهائلة بيد غيرهم، وإن كانت متجمعة تحت أراضيهم؛ وبذلك لا يستطيعون تحقيق طموحات أمريكا في المنطقة والعالم. ولكي تطمئن أمريكا على مصالحها، لابد أن ترضي حلفائها، الذين لا يرضون إلا بتهميش الشيعة مرة أخرى. وهنا يكون لزاما على الشيعة أن يطالبوا بحقوقهم، وربما سيضطرون للقتال فيما بعد؛ فيدخل العراق في مرحلة خطيرة. فإما أن يصمد الشيعة ويحصلوا على حقوقهم المشروعة، أو يسحقوا مرة أخرى. لذلك كله، ليس من الغريب أن تترك أمريكا الجلاد يقتل ويذبح ويهتك الأعراض ويخرب البلاد، ثم تحاول تصويره ـ من خلال إعلام خدمها في المنطقة ـ على أنه الضحية؛ بينما تحارب الضحية، وتصوره ـ في وسائل الإعلام تلك ـ كجلاد. فبيما يعيث البعثيون والتكفيريون في أرض العراق الفساد، ويمعنون بشعبه إبادة وتقتيلا؛ يطالعنا الإعلام الأمريكي والعربي (المتأمرك)، ومعه بعض الإعلام العراقي ـ كل يوم ـ بعناوين رئيسية في الواجهة، عن (المليشيات الشيعية) التي تهدد الأمن في العراق!! لكنهم لم يقدموا دليلا واحدا على تورطها في أي عمل إرهابي!! وبالرغم من التحفظ على سلوكيات بعض أفرادها، فقد كانت هذه (الميليشيات) ـ وخصوصا في المرحلة الأخيرة ـ بعد دخول التيار الصدري في العملية السياسية، وإبدائه نوع من الانضباط النسبي لسلوكيات أتباعه، مساهما جيدا في حفظ الأمن في المناطق التي تتواجد فيها، وعنصرا مهما في إبعاد البعثيين والتكفيريين المجرمين عن تلك المناطق. وقد سعى الأمريكان إلى ألاعيب مفضوحة ـ في هذا المجال ـ من قبيل إمساك بعض مجاميع الشرطة الرسمية التي تؤدي واجبها في متابعة واعتقال الإرهابيين المجرمين أو المشبوهين، وتصويرهم على أنهم (فرق موت)!! تاركين بذلك فرق الموت البعثية والتكفيرية العلنية التي تمارس القتل يوميا تحت مرأى ومسمع الأمريكان. إن المنطق يقول: لو كانت وزارة الداخلية تشكل فرق موت لألبستها ملابس أخرى، لتبعد الشبهة عنها؛ ولم تلبسها ملابس الشرطة المعروفة، لكي تكون دليل إدانة لها. فالذي يلبس ملابس الشرطة، ويقوم بعمليات إجرامية، لابد أن يكون من أعداء الشرطة العراقية؛ وبالتالي من أعداء الشعب العراقي، وهم معروفون للجميع. وهكذا . . وبعد أن فشلت كافة جهود واستفزازات الأمريكان لاستدراج تلك (الميليشيات) للقتال فيما بينها، أو دفعها نحو الحرب الأهلية، أو دفعها للمواجهة مع القوات الأجنبية في العراق، ومن ثم القضاء عليها في معارك غير متكافئة، أو تحييدها تحت الضغط والتشويه الإعلامي، من أجل قلب المعادلة السياسية، للتمهيد لعودة من تطمئن إليه قلوب حلفاء أمريكا في المنطقة . . بعد أن فشلت كل هذه الجهود، تحول الأمريكان للفتك المباشر بهم، في عمليات إبادة على طريقة البعثيين والتكفيريين، ليظهروا ما كتموه من دعم خفي لبعض تلك المجاميع تحت غطاء المصلحة الأمريكية. المحصلة ـ إذا ـ هي أن الردة الأمريكية ليست بالأمر المستغرب، بل هي نتيجة منطقية لمعطيات الساحة السياسية الإقليمية، من جهة؛ ومن جهة أخرى، هي نتيجة منطقية لقصور أغلب السياسيين الشيعة عن مرحلة التغيير التأريخية الكبرى، التي تتطلب سياسيين من العيار الثقيل، شدة وصلابة وحنكة ومناورة.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |