في ذكرى شيوعيين مجهولين

علي بداي

badai@casema.nl

سجن المطلاع

 في آذار 1978رفض الحزب الشيوعي بجرأة، كانت هي آخر مايملك من اسلحة ، دعوة صدام حسين بسحب بيان اجتماع اذار الذي سجل فيه الحزب ملاحظاتة النقدية العلنية على قيادة البعثيين للدولة ، فجردت المخابرات والامن والجيش ومنظمات البعث وجيشه الشعبي على اثر هذا الرفض اسلحتها لارغام الشيوعيين فرادى على التنازل عن افكارهم، واجبار غير البعثيين على التعهد بالبقاء مستقلين مدى حياتهم او الانتماء للبعث.

كانت تلك الايام اياما حالكة السواد، لاتكاد تتخلل عتمتها بارقة امل واحدة، فلم يكن بمقدور اية قوة داخلية مقاومة شهية صدام لسفك الدم ولاكان برغبة اية  قوة خارجية ان تتنازل عن مصالحها في العراق، او ان تخاطر بها، فتنصح صدام الحد من شراهته في افتراس معارضيه او غير المتحمسين لتمجيده.

 كان صدام يقتل بقوانين يصوغها بنفسه، ويوجه اتباعه للقتل دون تروي ولاتردد ، يقتل بتلذذ وغطرسة سادي عريق، مستعينا بثروة بلد غني، ودعم او تواطؤ كل دول العالم تقريبا،  وبمجتمع روض للهتاف له تحت طائلة القتل على الشبهة واغراء المناصب والرشاوى الاجتماعية المحسوبة بدقة. لم يكن يدور بخلد الملايين التي جمعها صدام تحت امرة طه الجزراوي وهي تستعرض ذاتها كل اسبوع في الساحات العامة هاتفة: يحيا البعث! انها تعد للذبح في حرب عراقية ايرانية قادمة، كما الخراف التي يحسن علفها قبل السوق للمذبحة، ورغم ان نذر تلك العاصفة الدموية المروعة كانت تلوح في مابين سطور تقرير آذار و الاخبارالمنسلة بين احاديث المساء عن اعتقال فلان واعدام آخر، كان الكثير ينظر باستغراب لطالب الهندسة الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، يرفع يده محذرا من الكارثة الآتية، وكأنه لايرى ماينشغل به الناس من اقبال على المال الذي فاض، لوفرته، من ايدي العراقيين ليملا جيوب جلابيات المصريين الذين اكتسحوا بغداد حتى ساحة ام البروم جنوبا!

اسررت لاستاذي المصري بأني تارك الدراسة في الكلية فتسائل باستغراب : وليه بقى يابني؟؟ فاجبت ببرود من اقسم على توديع الحياة ومجابهة الموت القادم من اقرب منعطف ربما: لكي احتفظ بشرف ان لا اكون بعثيا يادكتور، ولا مجبرا على الهتاف لصدام! بهت استاذي واطلق بصوت مختنق: يانهار أسود!، كان استاذي محقا، لم يكن ذلك النهارفقط  اسودا، بل كل تلك النهارات التي اعقبته، ضاقت الدنيا، وصغرت، حتى حل مساء  لم اجد فيه في العراق كله مساحة سرير واحد، خالية من ميكروب البعث تأويني، الا مساحة في اقصى الريف الجنوبي.

يممت وجهي شطر الريف، حيث مازال ثمة فسحة من قرى قصية لم يلتهما سرطان البعث بعد، وهناك كانت معجزة الشيوعيين قد حرثت الارض ومهدتها منذ زمن لكن الزرع لم ينبت بعد، فخطيئة من تلك؟

 بعيدا الاف الفراسخ عن راس مال كارل ماركس، وملايين الكيلومترات عن ديالكتيك طبيعة انجلز ومقالات بليخانوف تجولت ذات مرة داخل عقل امراة ريفية لاتفرق بين حرف وحرف، ولابين كتاب وكتاب، كل الكتب الفاخرة التجليد لديها مقدسة فهي ( قراعين) تقبلها بخشوع حين تسقط على الارض وتعيدها الى الرف بتمتمة، سالتها مرة ،ماسر احتضانها المتكرر للشيوعيين رغم المخاطر فقالت ببساطة : اذا لم آويهم ستقتلهم الحكومة فمن يحمي الناس ويدافع عنهم بعد ذلك؟ اختصرت هذه المرأة عالما من النظريات والفلسفة بواقع لمسته بنفسها، فقسمت المجتمع الى ناس و حكومة تطارد الناس ومجموعة مكافحة تدافع عن هؤلاء الناس!

 لكن امرأة رائعة كتلك، لايمكنها ان تأوي بمفردها  شعبا مطاردا، فاتجهت جنوبا عبر الصحراء اقطعها مشيا على قدمين مدميتين،لألجأ الى الكويت، كنت مكتسحا باحساسين متناقضين، احساس مهزوم فقد وطنه ربما الى الابد واحساس منتصرعلى قيم القطيع التي ينهمك صدام بفرضها قانونا على الناس، اي الاحساسين كان غالبا؟ لست ادري، مرة ارى نفسي بطلا نازل جيش صدام وحزب صدام والعالم الذي كان يملكه صدام ولم يخسر المنازلة ، واخرى حين ينشب برد الصحراء مخالبه المتوحشة في اوصالي المستنفرة ، احسد اي كلب حراسة  يصلني نباحه متقطعا من معسكر كويتي بعيد ، واقول مع نفسي على الاقل فان هذا الكلب يتمتع بالدفء ولديه مآوى، واعود ثانية واحسد الكلب لانه على الاقل غير مطالب بان يكون بعثيا، ،وفي عتمة الليل والتفكير والبرد الذي مزق الجسد داهمتني شرطة الكويت، لاجد نفسي في سجن المطلاع الصحراوي المظلم مهددا بالتسليم ثانية الى مخابرات صدام .

اشرقت شمس اول صباح علي معتقلا في ارض الكويت، فزحفت احرك اوصالي التي جمدها التعب، واستطلع بعيني المكان الذي دفعتني عصا الشرطي البدوي لاحشاءه، . كانت جدران السجن كانما عريضة احتجاج ضخمة وقعها الاف الناس من قاطعي هذه الصحراء، ذكريات دونها هاربون، ومهربون ومطاردون تحمل تواريخ سنين عديدة مضت ، وكأنما ان شعبا بكامله كان يحتجز داخل جدران هذا السجن. شعارات ومطارق ومناجل، من بين الكثير مما كتب سطور تعود لعام 1971 تقول: قد نصل ... او قد لانصل ، قد نضيع في الصحراء،  لكن  الحقيقة تبقى انك حين تكون شيوعيا تفعل كل شئ من القلب فتحب من القلب وتكره من القلب وتعاند من القلب..وتتحدى من القلب،وتخلص من القلب، وربما تضيع في الصحراء من ....

لم يكن يبدو ان كاتب هذه الكلمات، قد كتب كل مايريد ، خلف كلماته تلك تختفي قصة صراع، الفه الناس منذ عرف العراق الشيوعية، لكنه لم ينته بعد من رواية قصته،  قد يكون باغته الشرطي باستدعاء،  قد يكون وصل... او انه لم يصل.. وضاع في الصحراء كما كتب، لكن الرسالة التي كان قلبه يحملها وصلتني وها انا اطلع الناس عليها بعد كل هذه السنين، اخر كتب:  من لم يكن شيوعيا سوف لن يعرف الابتسام في حياته، مثل هذه اللغة تجدها لدىالحيارى من الناس ممن يباغته الوعي فجأة  حين يتعرف على شيوعي ما فيغرس في وجدانة زهرة الشيوعية ليكتشف الوجه الاخر للحياة، بعد ان كان غائصا في صغائر الامور... ثالث اكتفى بصرخة فهد قبل استشهاده، الشيوعية اقوى من الموت واعلى من اعواد المشانق  ورابع يخط وصية فهد للشيوعيين الجدد: ايها الرفيق كن دائما على استعداد لنفع من هم حواليك، بعد شبر من تلك الكلمات، كتب شاعر( من تراه يكون؟؟) ، مقاطع غزل يتارجح بين المراة والشهيد، احسب ان المرء لايجد في اي بلد في عالمنا الفسيح هذا العدد من الشعراء يتغزل بحزب سياسي كما في العراق،  فالسياسة في كل مكان عنوان يشير الى دهاليز المساومات، والصفقات والوعود وربما الاكاذيب الكبيرة  والمصالح الخاصة، لكنها مع شيوعيي العراق قضية شرف وضمير، وتجرد تام عن كل ماله علاقة بالذات، ربما لهذا بالذات، كان الشعراء العراقيون الشرفاء على الدوام متهمين بالشيوعية .

 كم تمنيت ان تتحقق لي فيما بعد امنية تصوير هذا الجدار التاريخي.في سجن المطلاع الصحراوي..... وتمر السنون فتاخذ قادسية صدام الملايين اليافعة الى ظلام القبور، وتعقبها مجاز وانفلات ، وتتغير تحالفات وتخلق احزاب لتنشق الى شظايا احزاب :

  وفي كل مرة ارى الى ما حولي، لاجد حزبا اكثر نظافة من الحزب الشيوعي لاشبعه غزلا وقبلا.... فلا اجد ،

في كل مرة، اتلفت حولي لاجد حزبا، لايلفني بشرنقة العشيرة او القبيلة،  اكون معه مخلصا لقوميتي وقومية غيري من الناس، محترما لديني ودين غيري من الناس، عارفا لحقوقي وحقوق غيري من الناس فلا اجد الا اياه، 

في كل مرة، اتلفت حولي، ابحث عن حضور الضمير في ادبيات الاحزاب فاجده، ابحث عن حضور الضمير في سلوكيات الاحزاب، فلا اجده الا بحزب الشيوعيين،

في كل مرة،  ابحث عن حزب يحب علي بن ابي طالب والحسين، لاشهارهما سيف الحق بوجه الباطل المتسلط، ولا يتاجر بحبهما، وبدمهما، فلا اجد الا حزب الشيوعيين،

في كل مرة، ابحث عن النزاهة ، نزاهة اليد التي لا تنتظر اغفاءة الضمير، واللسان الذي يرد الحجة بالحجة والتحية باحسن منها، ابحثها لدى الاحزاب، افقدها لدى الاحزاب واجدها لديه،

في كل مرة، حين تدلهم سحب الطائفية المكفهرة ،او تتزاحم قطعان التخلف متلفعة بدشاديشها الداكنة القادمة من عصر الديناصورات، والماموثات  يستحضر قمر الشيوعية نيرا في ذاكرة حتى من لاذاكرة له،

في كل مرة، ابحث عن ناصية اكللها بالورد، فلا اجد اليق من هامة ام شهيد شيوعي

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com