قنوات التحريض الشامل

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

هل كانت بعض الدول الغربية على حق، حين قررت فرض حظر على بث بعض القنوات الفضائية العربية والإسلامية، على أراضيها، نظرا لطبيعة المادة الإعلامية التعبوية والتحريضية التي تبثها، والتي تحض على العنف، والكراهية، والبغضاء، وتظهر العرب والمسلمين، بأنهم أناس لا همّ، ولا شغل لديهم، سوى إشعال الحروب الضروس، وتخريب النفوس، وإعمال الفؤوس في الرؤوس. وأن انهماكهم بالخلافات الدائمة، والصراعات المؤبدة، والنزاعات المخلدة أكثر بكثير من التفاتهم للتنمية، والتعليم، والبناء، والعمل، والحوار؟ وهل كانت تلك الدول، تقدم من خلال ذلك، ومن حيث لا تدري ربما، خدمة لـ"العرب والمسلمين"، حين يحجبون عن مشاهديهم تلك القنوات المروجة للحرب، والقتال، ولا تبث سوى مشاهد الدماء، والجثث، والأشلاء، والتفجيرات؟
وتأتي التصريحات الصاروخية، والنارية الأخيرة، لأحد أباطرة الطوائف المولعين بالتحرير والجهاد، في هذه المنطقة، التي لن تعد تنتج سوى فكر الدم، وثقافة الموت والاستئصال، لتضفي نوعا من القبول، والشرعية على قرارات تلك الدول التي حظرت رسمياً محطات الموت والظلام، وعلى صوابية تعاملها مع هذا النمط من الإعلام، وكل أشكال السلوك والثقافات ذات الميل العدواني العام. ولقد أصبح التهديد بقطع رؤوس الناس، وإعدامهم، وبتر أعضائهم جزءا من خطاب يومي يتلقفه الكبار، والأخطر من ذلك الصغار، في وسائل إعلام رسمية، ووطنية وممولة من قوت المحرومين والفقراء البؤساء. ناهيك عن ذاك الكم الهائل من الضخ الأجوف، والتعبئة العقائدية التي يتلقاها الناس ومن أكثر من مصدر، وتحت سمع، وبصر، ومباركة معظم هذه الدول، والحكومات، في ظل تغييب واضح، وشبه تام للفكر العلماني، والإنساني المتنور، والمتسامح. حيث أن كل ذاك الضخ، والحشو التحريضي سيخرّج ولا بدّ، تلك النفوس المأزومة، والقنابل البشرية الملغومة، القابلة للانفجار، بأية لحظة ولأتفه الأسباب.
ونتيجة لذلك فقد أضحت هذه الثقافة مهيمنة، ومفهومة، بل وحتى مبررة، في أوساط واسعة من العامة، والدهماء، وأن كل ما ينتج عنها من سلوك وممارسات هو موضع تقديس، وتعظيم، وتفخيم، وإعجاب. ولكنها، بنفس الوقت، ليست بحال، محل تفهم، وتقدير لدى ثقافات، وشعوب أخرى تناست فكرة الموت، وانطلقت تعانق الحياة، وألغت قانوناً عقوبة الإعدام، ولديها، جمعيات حتى للرفق بالتيوس والثيران. ولا يمكن لها أن تتقبل، وأن تدرك كيف يمكن أن يسمح لوعّاظ دينيين، وزعماء سياسيين أن يدعوا، علناً، للقتل، والموت، وسفك الدماء، وهذا بالمناسبة جريمة يعاقب عليها القانون، بدل أن يدعوا هؤلاء جميعاً للتفاهم، والحوار، والمحبة، والوئام بين الناس. والسؤال الأهم، على طول الزمان، من أعطى أياً كان، حقوق التصرف الحصرية، والوكالة العامة (غير القابلة للعزل) برقاب، ودماء، وأعمار الناس؟ وهل من السياسة، والتحضّر، والعدل أن يقوم أي كان، بتصفية خصومه السياسيين، بهذه الطرق الهمجية الدموية، والوحشية لمجرد اختلاف في الرأي، وتباين في وجهات النظر، وافتراق بالأفكار؟
وفي الحقيقة، لقد ساهمت الكثير من القنوات الفضائية في الآونة الأخيرة، وتحت شعار فضفاض، ومبهم من فسحة زائفة من الحرية، بتعميق ثقافة الكراهية، وبث النعرات المذهبية، والطائفية، والعرقية العنصرية، وهي إذ ذاك تقوم، جهلاً، أو عمداً، بتكريس تلك الصورة السوداء التي ارتسمت في قلوب وعقول الناس، ونقل صورة مشوهة للعالم أجمع، عن هذه المجتمعات، وذلك أيضاً، عن طريق بثها للكثير من المواد الإعلامية الموثقة صوتا، وصورة عن عمليات قتل، وإعدام، وقطع رؤوس لرهائن ومدنيين أبرياء، وتبنيها أحيانا، وبصورة غير مباشرة، لفكر وأساليب بعض الجماعات، عبر تمجيد أبطال هذه الممارسات، وإطلاق صفات التعظيم والتفخيم عليهم في أغلب الأحوال.
واليوم يحفل الفضاء الرحب بكافة أشكال قنوات التحريض وبث الكراهية والاستعداء، وتعج البيوت الآمنة بألوان من الشاشة التي تمجد الموت والانتقام، فقد أصبح من الواجب والمحتم، تجريم هذا السلوك، وممارساته الشنعاء، وإصدار التشريعات، والقوانين العصرية، اللازمة، والصارمة والتي تحظر كافة أشكال الدعاية التعبوية التدميرية، والاستئصالية الإجرامية التي تزرع الحقد والبغضاء، وتنشر روح الثأر، والانتقام، وتعمل، بالتالي، على تفتيت المجتمعات. وحث حكومات هذه الدول على تبني خطط وطنية شاملة للتصدي لكل من يحاول أن يتلاعب بأمن وسلامة وحياة الناس، وهي حكماً، ليست ملكا لأحد، البتة، وذلك للمتاجرة بها، في البازارات السياسية، وتحقيق المكاسب الدنيوية الرخيصة، على حساب دماء، وعقول الناس الأبرياء.
إذن، لقد كان من حق هذه الدولة أو تلك، ومن وجهة نظر شخصية وقانونية، أن تفرض حظراً على بث بعض القنوات التحريضية، وأمثالها، والتي تكاثرت بشكل فطري مرعب، درءا لانزلاق مجتمعاتها في أتون صراعات طائفية ومذهبية لا تبقي ولا تذر. وما هذا في الحقيقة، وبرغم أهميته، سوى أول المشوار، وأضعف الإيمان. والأجدى، والأنفع للناس، وحماية للسلم الأهلي، وبقاء المجتمعات آمنة سليمة من الفناء والزوال، هو منعها جميعاً وبدون استثناءات، وإلغاء ترخيص أية وسيلة إعلامية لا تدعو للمحبة، والتسامح، والأخوة بين الناس جميعاً، وبغض النظر عن أية عقيدة، وانتماء.

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com