تَرَجّل فارسُ الحرفِ الجميل

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

ترجل فارس الحرف الجميل عن عرشه الشعري الأصيل، وتوارى بصمت مخيف تماما كما يرحل الرهبان والقديسون في كل الأساطير. انزوى دون أن يخون وطنه، رغم أنه اختار هذا عنواناً لأحد مؤلفاته الغنية والثرية، رحل دون أن يخون أي شخص أو مبدأ من مبادئه التي تربى ونشأ عليها، وذلك، وببساطة شديدة، لأن أمثال الماغوط غير مجبولين على الغدر، ولا يعرفون معنى الخيانة. بل على العكس، لقد ظل وفياً لكل الأشياء التي عرفها، وخبرها حتى لسيجارته التي أضحت صديقته الوحيدة. ولم يعرف الخيانة، رغم أن كثيراً من الأشياء قد خانته في رحلة عمره المديدة. فلقد خانه الأمل بالأوطان التي مافتئت تولد الأحزان في لياليها الشمولية الكئيبة. وخانته الأقدار التي اختطفت من حوله، أعز، وأغلى الأحباب، وخانته الصحة التي استسلمت أخيراً للمرض، وخانته الأحلام الجميلة فلم تأت أبداً من مجاهيل الآفاق المسدودة.
"............فلان سني، فلان شيعي، فلان درزي، فلان علوي، فلان قبطي، فلان إسماعيلي، فلان شافعي، فلان حنبلي، فلان سرياني، فلان تركماني. فلان من هذه العشيرة. وفلان من تلك القبيلة، وهذا من تلك الفخذ، وذاك من ذاك البطن، حتى لأشعر بأنني أنتمي إلى القوارض الخشبية، والتجمعات الحشرية، أكثر مما أنتمي لهذه الأمة. فنحن الوطنيين الوحدويين، الوحيدين الأبرياء الذين لا فخذ لنا، ولا بطن، ولا رقبة، ولا كاحل في هذه القبيلة، أو تلك العشيرة، ولا طائفة لنا إلا هذا الوطن من محيطه إلى خليجه...ماذا نفعل؟"(طوق الحمامة).
ما أحوجنا لهذا الكشف الحر الجريء، ولتلك الروح التي تنساب في فكر نيّر أصيل، وقلب إنساني كبير، بعيد عن التشنج والتعصب المريض. كلمات تلخص دهراً، مطعمة بنكهة "ماغوطية" خالصة، إلا أنها أكثر من نبوءة لعصر عربي جاثم بظلال بليدة، وحقب لا تنتهي من الفرقة والتشرذم والتناحة والعصيان. تلكم كانت كلمات مقتبسة من سلسلة "أليس في بلاد العجائب"، تلك السلسلة الأسبوعية الرائعة، بل والخالدة، التي كانت ترصع صفحات مجلة المستقبل الأسبوعية اللبنانية، التي كان يرأس تحريرها الصحفي المرحوم نبيل خوري، في ثمانينات القرن المنفرط. وكانت هذه الكلمات، تعتبر في وقتها، في زمن الحصار، والتعتيم والإطباق، فتحاً، وتحدياً، وهزءاً، وتشريحاً، لواقع عربي كانت تنسج ملامحه بعض الممارسات، وكان قد بدأ يتردى باطراد نحو هاويات لا قرار لها من الانحطاط. وأصبح يأخذ خواصه الوضعية، وملامحه الاستبدادية التي ستميزه لاحقاً وتطبع وجوده كلياً، وتصبح أحد صفاته الأساسية التي تميزه عن باقي شعوب الأرض، شذوذاً سياسياً، وشططاً فكرياً، وانحداراً ذوقياً، وحضارياً عاماً. وقد تضمنت تلك السلسلة رؤاه الشخصية عن هذا الواقع مصحوبة بتلك الروح الناقدة اللاذعة، لمواقف خاطفة، لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عندها، ويتأملها ملياً.
وأخيراً، هوت قمة الجبل الإبداعي، في لحظة إنسانية قادمة لا ريب فيها، لكل من ولج هذا المسرح العبثي في لعبة الزمان. ومضى على إثرها صاحب الوجه الحزين، الذي حمل هموم وآلام شعوب بكاملها أثقلته بأوجاعها، وزادته حزناً على حزن، وألماً على ألم، وهمّاًّ على همٍّ على قلب وردي شفاف، كسرته دهشة الواقع، وقسوة، وفظاظة هؤلاء الأقوام الأجلاف. إنها القصة الأبدية الدائمة لتلك الأرواح الشفافة التي تصطدم بمرارة الواقع، الحالمة بفراديس أرضية تنعدم فيها التمايزات والصراعات والأحقاد، وتنزع لأفق خالٍ من شتى أنواع المنغصات، وللمرء الحصيف فقط، أن يتخيل حجم الإحباط، والانكسار الذي تصاب به مثل تلك الأنفس والأرواح. فلم يكن يخرج من محطة للحزن والأسى، حتى كان يلج واحدة أخرى يعبرها بقلب كبير لكنه متعب لشاعر حزين، يتقد جمراً بحب الناس، والطبيعة والأشياء، وعمق فكري، وعدسة لا تخطئ الأهداف يديرها نظر ثاقب في تعقب وتحليل لظواهر المجتمعات التي يأكلها الفساد، ويحكمها الاستبداد، ويستبيح عذريتها الشبيحة والمافيات، ويستنبط منها ما يثير تلك الابتسامات المريرات الموجعات. إنه جبل الريح الذي عصف بعامل الخوف، وطرق كل المحرمات السلطوية، التي زرعتها حقب المد الشمولي، والخوف، والتنكيل، والإفزاع.
محطة هامة في حياة الماغوط هي التي ارتبطت بالكوميديا السورية التي جسدها الفنان المبدع دريد لحام، إلى حد كبير. ودانت له بالكثير من عوامل التألق والنجاح. وبالطبع، نحن لا ننكر على فنان سورية الأول إنجازاته العبقرية الهامة، ولكن من الإنصاف القول أن تألقه الأكبر، وسطوع نجمه بلا منازع في سماء الكوميديا العربية، في مرحلة ما، ارتبط بتلك الفترة حيث كانت المفردات الساحرة اللاذعة، والسخرية المرّة الباهرة، والتهكم الجارح الخارج عن المألوف والمعتاد، ولكماته المباغتة على المناطق المحرمة تدهش المشاهد، وتربك الخصم، وتفقد المتلقي صوابه لوهلة، وتترك خلفها عشرات الأسئلة بلا إجابات. لقد كان بزوغ عصر ما يمكن وصفه بالابتسامة الهادفة، التي تترك الكثير من علامات الاستفهام، وراء الضحكات، وليست أبداً لمجرد التهريج، والإضحاك، وتلقي حكماً وعبراً بكلمات، وتلخص مراحل بمفردات، وتختصر حقباً بقليل من أحرف صماء.
عانى الماغوط من السجن مرتين في عام 1955و1961 فتصوروا ماهية أمة تسجن رجلاً كالماغوط، وأي مستقبل سيكون لها، وتترك اللصوص والشبيحة والمافيات يسرحون ويمرحون!! فهل كان من الممكن لعبقري فذٍ كالماغوط أن يعيش في هذا الشرق المأفون دون أن يزور سجونه، ويتمتع بضيافة جلاديه؟ إنها، ولا شك، لعنة الموهبة، والإبداع، والعبقرية، والذكاء التي تطارد أفذاذ الرجال؟
رحل الماغوط، ولم يترك وراءه أرصدة مالية كبرى، ولا مشاريع مادية حالمة، ولا استثمارات واعدة، ولا عمارات محلقة في عنان السماء، بل تراثا أغنى، وأثرى من كل هذه الأشياء. وسيبقى ولوقت طويل، علامة باسقة تلوح لكل من يرنو لأدب سوريا الأصيل في هذه المرحلة بالذات، تراثا فذاً، خالداً ستتلقفه، وتتناقله، بنهم بالغ، أجيال قادمة من المستقبل البعيد.
لا يحتاج الماغوط لأية كلمات رثاء، فالعظماء الحقيقيون، أحياء وباقون في قلوب، وضمائر، ووجدان الناس بعيدا عن كل مظاهر العظمة الزائفة، والأبهة الفارغة، وخواء السلطان. لن يرحل الماغوط أبداً من مخيلة وعقول الناس، وإن توارى جسداً في باطن الأرض، فروحه الشفافة المحلقة ستبقى ترفرف، شعراً، ونثراً، ومسرحاً، وكلمات ذات صدى، فوق ذرى، وربى، وشواطئ الأوطان. وستفخر هذه الأوطان الثكلى، والمفجوعة دائماً بأبنائها البررة، وعلى مر الزمان، بأنها قدمت للبشرية جمعاء، محمد الماغوط، الفنان المبدع، والعاشق، والشاعر، والإنسان.

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com