|
سيادة القانون أصبح الحلم المستحيل حمزة الجواهري مما لا شك فيه أن من انتخبهم الشعب كانوا يحملون برامج سياسية، وكانت قد تضمنت بعض ما يريده الناخب، ولكن علينا أن نكون أكثر واقعية والاعتراف بأن الانتخابات كانت قد جرت على أساس مختلف تماما، بل معكوس تماما، وهو أن الاصطفاف كان قد جرى على أساس ما حملته تلك البرامج من أهداف تخيف الأطراف الأخرى، فاصطفوا خلف القوي الذي يستطيع أن يقف بوجه من يحملون أهدافا تخيفهم، وليس إيمانا ببرنامج الذين اصطفوا خلفهم، لذا على السياسيين الذين فازوا بالانتخابات أن لا يأخذهم الغرور أكثر مما ينبغي، وأستطيع الجزم بأنهم ما كانوا يستطيعوا أن يحققوا عشر الأصوات التي حصلوا عليها لولا الخوف من المشاريع السياسية المخيفة التي حملتها قوائم الضفة الأخرى للوطن، شرقية كانت أم غربية، ذلك لأن الإرهاب قد أصبح حقيقة موضوعية على أرض الواقع، وفي أي مكان من العراق، والمشاريع السياسية التي تخيف الناس قد ارتبطت به وهي تلك البرامج التي يحملها من يساهمون بالعملية السياسية، أما الفساد إداري والمالي والأخلاقي فهي حالات مصاحبة لحالة الفوضى والإرهاب وضعف السلطة المركزية، حيث جميعها تعتمد بشكل أو بآخر على إشاعة حالات متعددة من الخوف، وهكذا نشأت ثقافة الخوف وهي الثقافة المسيطرة اليوم على الشارع العراقي، ولا توجد ثقافة أخرى تنازعها في التحكم بجميع أنواع الحراك الاجتماعي أو السياسي وحتى الاقتصادي. ولإيقاف هذا المحرك العملاق المتمثل بالخوف، هناك بديهية عرفتها البشرية منذ زمن بعيد وهي أن يكون الإنسان مطمئن فيما لو كان هناك سلطة تستطيع فرض القانون وقضاء يحاسب المسيء بالعدل والقسطاس، وقد كان العراقي هو السباق بوضع القوانين وبسط سلطة الدولة وبالتالي إشاعة الأمن، وهكذا تطور المجتمع ونشأت على أعقاب هذه الاكتشاف الخطير، "القانون القوي والقضاء المستقل"، عدة حضارات في بلاد الرافدين تلتها بعد ذلك حضارات أخرى في بلاد مختلفة من العالم، وبقي هو الشرط الوحيد للتطور لحد الآن. لذا فإن العراقي اليوم يراقب بصبر يكاد أن ينفذ العملية السياسية التي وصلت إلى تشكيل حكومة دائمة أريد لها أن تكون توافقية، لكن سياسة التوافق أول ما تمخضت عنه هو "المجلس السياسي للأمن الوطني"، وحين نقرأ النظام الداخلي لهذا المجلس بآلياته المعقدة جدا نجده من أهم الأدوات التي تشل سلطة الدولة وتجعل من العراق ساحة مثالية لعمل الإرهاب وتفشي الفوضى وتجذر كل أنواع الفساد، خصوصا وإن المشاركين في المجلس يحملون أجندات مختلفة، حتى أن بعضهم قد ألزم نفسه بالدفاع عن الإرهاب علانية ويعتقد جازما أن مهمته تقتصر بحماية الإرهابيين، ولا يخفون هذه الحقيقة على الإطلاق بل يفخرون بها ويعتبروها نوعا من التزام أمام ناخبيهم!! وكل ما أخشاه هو أن يكون هذا الأمر خاضعا هو الآخر لمساومات جانبية تأتي في النهاية على حساب أولويات الشعب المتمثلة بإعادة السيطرة على الشارع وإنهاء حالة الفوضى. ما نراه الآن من أمر القضاء فهو مضحك مبكي، حيث خلال ثلاث سنوات من الفلتان الأمني والقتل العشوائي والمنظم والأعداد الهائلة من الإرهابيين الذي تم الإمساك بهم متلبسين بجرائمهم، لم تنجز المحاكم العراقية سوى أقل من ألف قضية صدرت بها أحكام! معظمها خفيفة جدا، في حين أن عدد قتلى الإرهاب أكثر من خمسين ألف عراقي، أما الجرحى والمتضررين فإن عددهم يزيد على ضعفي هذا العدد، ولم تصدر أحكام بالإعدام إلا على نفر قليل جدا من المجرمين الإرهابيين، قد لا يزيد على عشرين حكما في عموم العراق، في حين أن عدد القضاة الذين قتلهم الإرهابيون يزيد على هذا العدد بكثير، هذا فضلا عن حالة الفوضى العارمة وضرورة محاسبة المتسببين بها! لتكون السلطة قوية لابد من شروط موضوعية يجب توفرها، وهي أنها سريعة الحركة وتتبدل أساليبها مع تبدل أساليب الإرهاب وأن تتنوع أسلحتها وأن تكون لها آذان وعيون وأن تكون مدعومة من مركز القرار وأن تكون كافية لمواجهة كل طارئ، في حين أن المجلس الجديد جعل منها مومياء لا تنفع حتى أن توضع في متحف، حيث أي قرار يجب أن يتخذ عليه أن يتخطى ألف عقبة وعقبة، ولو كنا متفائلين جدا فإنه سوف لن يحدث بفترة تقل عن شهرين أو ثلاثة أشهر، أما لو مر فعلا بعد ذلك الحمل الطويل والمخاض العسير فإن الأطراف التي لا تريد له أن يتفعل سوف ترفع عقيرتها بالصراخ كما أعتدنا عليهم يفعلون عندما يتعرض الإرهابي لأي خطر، ويتحول رجل الأمن إلى إرهابي والإرهابي إلى ضحية إعلاميا، تما كما نرى الآن ما يجري على أرض الواقع، حيث الضحية هو المجرم والمجرم أصبح سيد الشرعية، وتقف له جميع الفضائيات والأجهزة الإعلامية ومنظمات حقوق الإنسان والحيوان وهيئات العلماء ودور الدعارة يصطفون معا في طابور طويل للدفاع عنه!!!! فأي سلطة نتوقع أن تحمي القانون وأن تحمي الآمنين والأبرياء في حين أن الذي يحمي الإرهاب يتخذ له مكانا مرموقا في المجلس السياسي للأمن الوطني المزعوم؟ وكيف نستطيع أن نوقف عمليه التشويه الإعلامي وقلب الحقائق لمصلحة الإرهاب؟ وكيف نستطيع أن ننزع البرامج السياسية الإرهابية من أيدي السياسيين الذين يشاركون بهذا المجلس الخطير على أمن العراق والمنطقة برمتها؟ إن سلطة مشلولة بوجود هذا المجلس وقضاء مكبل تماما، سوف لن تستطيع الحكومة أن تردع ذبابة أو تخيف إرهابيا حتى لو كان مبتدئ، في حين أن الردع من خلال سلطة مطلقة الأيدي وأحكام قاسية يمكن أن يضع حدا للكثير من الجرائم التي نراها، لأن الإرهابيين جبناء كما عرفناهم وما يدلل على ذلك هو طبيعة عملياتهم الخسيسة. جميع الذين يجلسون بهذا المجلس لديهم مليشيات موازية لسلطة الدولة، وهذا أمر لا يستطيع أيا منهم نكرانه، ومنهم من لديه منظمات إرهابية تحمل السلاح الآن وهي المسؤول الأول والأخير عن حالة الفوضى، فهل سيوصي المجلس بحل المليشيات أولا أم بالقضاء على العصابات الإرهابية التي يسموها مقاومة؟ فلو بدأ المجلس بالقضاء على الإرهاب والعصابات المسلحة، بالتأكيد إن من يدعم المقاومة أو الإرهاب، سمه ما شئت، سوف يعترض ويعيق هذا القرار حيث لديه توافقات مختلفة واتفاقيات جانبية مع أطراف كثيرة في المجلس سوف يوظفها من أجل شل قرار كهذا. أما لو بدأ المجلس بنزع سلاح المليشيات، فإنه سوف يواجه بزوبعة كبيرة من جميع الأطراف التي لديها مثل هذه المليشيات، وبالتالي سوف لن يصدر قرار أو توصية من المجلس بهذا الشأن أيضا. أما لو قرر المجلس ضم المليشيات للقوات المسلحة، والبعض منهم يفاوض على هذا الأمر حاليا، فإن الأطراف التي لديها تنظيمات إرهابية، أو ما يسمى بتنظيمات المقاومة، فإنها سوف تحتج وتطلب ضم أعضاء هذه العصابات أيضا للجيش والقوات المسلحة، وهل هذا الأمر ممكن أو قابل للتفاوض؟! هذه إشكالية واحدة من آلاف الإشكاليات المتوقعة والتي تأخذ دورها من الآن لتعرض أمام المجلس، ولا أعتقد أن المجلس لديه حل جاهز لأي منها، إذا عليه أن يدخل في حلقات التفاوض المفرغة ويبقى أفراد الجيش والقوات المسلحة العراقية "يكرزون حب" ويحلون الكلمات المتقاطعة انتظارا لقرار، حتى لو كان قرارا بغسل الشوارع بدلا من تنظيفها من الإرهابيين، أو ربما سيجد أفراد هذه القوات سبيلا للانضمام إلى تلك المليشيات أو التنظيمات الإرهابية! لم لا؟ على الأقل لحماية أنفسهم من الهجمات المتوقعة ضدهم، في حين هم منزوعي السلاح ومحرم عليهم حتى شتم الإرهابي، لأن شتم الإرهابي يتعارض مع حقوق الإنسان! لذا أجد أن هذا المجلس هو الحاضنة الكبرى للفوضى المطلقة في العراق، وهو الذي سوف يكون السبب الرئيسي والأخير للحرب الأهلية، لأن الأسباب الأخرى قد تشكلت منذ مدة طويلة. ولكي يكون القضاء قويا ومستقلا وفاعلا لابد من شروط موضوعية يجب توفرها أيضا، أولها عدم التدخل بشؤون القضاء، وأمن القضاة، وتفعيل القوانين المجمدة كقانون مكافحة الإرهاب، وأن تجري المحاكمات في أجواء بعيدة عن العنف المسلح وإرهاب الشهود والمدعين، وأن تصادق الرئاسة على الأحكام وأن تكون هناك جهة تنفذ تلك الأحكام التي ننتظرها على أحر من الجمر. لكن واقع الأمر وبظل الإرهاب الفاعل والقوي والحكومة التوافقية والمجلس السياسي للأمن الوطني، فإن أيا من هذه الشروط سوف يكون من العسير توفيره بأي حال من الأحوال، بل هو المستحيل بعينه. وهكذا، فإذا كان القضاء مشلول والقوات المسلحة تلعب "طم خريزة" عن أي نظام نتكلم؟ وعن أي أمن نتكلم؟ وعن أي عراق جديد حر ديمقراطي نتكلم؟! هل نضحك على أنفسنا أم نضحك على الشعب المسكين الذي يدفع دمه وكرامته وممتلكاته وشرفه وكل شيء انتظارا لغد آمن؟ آمن فقط، ولا يريد الآن أكثر من ذلك. حقا لقد هانت مطامحنا. ألا يتفق معي السياسيون أن العملية السياسية قد دخلت في نفق مظلم لا نهاية له؟ وأنهم يقودون العراق إلى الهاوية؟
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |