ماذا بعث البعث؟

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

تعود بذور نشأة فكرة القومية العربية إلى أيام الاحتلال العثماني لهذه الرقعة الجغرافية ذات الأعراق المتعددة التي يطلق عليها مصطلحاً سياسياً هو الوطن العربي. وكان تبلور الفكرة بشكل رئيسي هو نتيجة غلبة العنصر التركي الطوراني على مقدرات الحكم والسياسة، وتحكمه بالثروة والجاه والمنصب، ومعاملة الشعوب المنضوية تحت سيطرته معاملة العبيد والغلمان والقين، وكان لهم ذلك عبر التسلح بسلاح، وذريعة الإسلام. ومع ذلك لا يتورع بعض القوميين والإسلاموسياسيين حالياً للدعوة لعودة لهذا الاحتلال تحت مسمى آخر هو الخلافة الإسلامية. ولقد أدت ممارسات التشبيح الانكشارية للعسكر العصملية، واستئثار الطبقة الحاكمة بمقدرات البلاد إلى بروز نوع من الوعي القومي والوطني، تجلى بضرورة التمييز بين العنصر العربي الرازح تحت الظلم، والضيم، والاحتلال، والعنصر التركي المحتل المتنعم بالثروة، والجاه والقرار. إلا أن هذه الفكرة لم تتبلور على شكل تنظيم سياسي حزبي متكامل وواضح، إلا على يدي الثنائي السوري المعروف بيطار- عفلق. لقد كانا يدرسان في فرنسا، حين تأثّرا، وأُعْجبا بفكرة القومية التي كانت تعش آخر أيامها يومذاك في المحيط الأوروبي، بعد هزيمتها الساحقة وبعد أن أشعلت الحرب العالمية الثانية، التي حصدت أرواح عشرات الملايين من البشر في حرب ضارية عشواء.
وتشاء "محاسن" الصدف أن يطّلع، ويعتنق بعض من الضباط، والطبقة العسكريتاريا الوطنية الناشئة حديثاً، بعد ما سمي بـ"الاستقلال الوطني"، هذه الإيديولوجيا، لحاجتهم الماسة لشرعية عقائدية مغرية تستقطب الناس وتستهويهم، وتداعب مشاعرهم الإثنية، يَثِبُونَ من خلالها لكراسي الحكم، في ظل وجود نوع من الليبرالية، والديمقراطية المؤطرة، والتي كانت سائدة إلى حد ما في ذاك الزمن السالف. وتمكن هؤلاء فعلاً، وعبر انقلابات عسكرية مدبرة، من الوثوب للسلطة، وإذاعة البلاغ رقم واحد، والإمساك بمقاليد الحكم في كل من سورية والعراق. جرى خلالها فرض قوانين استثنائية، وتم تغييب كل منظمات المجتمع المدني، وكان عملياً انتهاء التداول السلمي للحكم، وتعطيل كافة آلياته الدستورية والقانونية الأخرى، وإحلال الشرعية الثورية مكان كل الشرعيات الأخرى التي تتمحور حول فكرة الزعيم الملهم والقائد التاريخي.
وتقضي فكرة البعث العربي عموماً، بتجميع العرق العربي، بكيان سياسي واحد في الرقعة الجغرافية التي يسكنها العنصر العربي، و"بعث أمجاد الأمة العربية"، التي "سادت" في فترة ما من تاريخ هذه المنطقة التي تميز على الدوام بالحروب، والغزوات، والنزاعات، وربما فعلاً هذا هو ما نجح البعث في بعثه في العراق على الأقل، إذا ما تأملنا ملياً، ما حدث ويحدث، وما آل إليه الوضع المأساوي الدامي في الشق الشرقي من الامبراطورية البعثية، ونعني طبعاً "قطر العراق"، التسمية الرسمية للدولة في الخطاب البعثي. ولن نتناول التجربة السورية هنا، عامداً، متعمداً، كون تجربة البعث السوري لم تنته بعد، وما تزال قائمة حتى الآن، ولا يمكن الحكم، والرجم بالغيب، عما سيؤول إليه وضع البعث مستقبلا في الوطن السوري العزيز. وللعلم، فقط، هناك لجنة منبثقة عن المؤتمر القطري للحزب، تعمل على تطوير الحزب يرأسها الأستاذ أحمد الحاج علي، ولم يتمخض، حتى الساعة، أي شيء عن هذا التطوير المأمول.
وأخذ حزب البعث العربي الاشتراكي على عاتقه مهمة توحيد العرب، وتحقيق الأهداف القومية الكبرى في الوحدة العربية الشاملة، والحرية السياسية، وتطبيق الاشتراكية عبر توزيع الثروة القومية العربية على الشعوب العربية بالتساوي بين الجميع. وقد صدرت أطنان من الكتب، والمؤلفات، والمنشورات، وقام مئات المنظرين وخبراء القومية الستراتيجيين الكبار بتوضيح " فكر الحزب"، عبر ثالوثه الإيديولوجي المقدس الشهير. وعاشت الملايين المنكوبة تنتظر يوماً بعد يوم، وشهراً بعد آخر، وسنة بعد أخرى، وعقداً بعد عقد، على هذه الأمل، والحلم الكبير، وصدحت له الحناجر، وغنى له المطربون، ونظمت من أجله عشرات القصائد والمعلقات، التي صفق لها العامة. وكانت هناك حملات عامة في وسائل الإعلام لتوضيح هذه الفكرة ونشرها بين الجماهير، ترويجا لها، وتدجيناً لكل من تسول له نفسه الأمارة بالتمرد على هذا الفكر العظيم. وتمر الذكرى التاسعة والخمسين الآن على تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي مثقلة، وقاسية جداً على "قيادة قطر العراق الشقيق"، بشكل لم يسبق له مثيل في يوم من الأيام، ومحملة بالكثير من الأسى والمرارات. فالأمين العام القومي للحزب الرفيق القائد الملهم المجاهد صدام حسين أسير ومعتقل لدى القوات الإمبريالية التي كان يهزمها دائما في بيانته، وقد يواجه حكماً بالموت، في بغداد معقل القيادة القومية العراقية (كان هناك قيادتان قوميتان متصارعتان للحزب). وتراجعت بعدها كل تلك البيانات الخطابية والمهرجانات الحماسية، والأهداف القومية الكبرى، وخف بريق الفكرة القومية التي خفقت لها قلوب الملايين، وحل الخطاب الديني الطائفي ضيفاً بديلا محل الخطاب القومي الذي يرتبط معه، وإلى حد ما، بالكثير من أواصر اللحمة، ووشائج القربى.
إلا أن هذه الأحلام الكبرى، وبفعل ممارسات غريبة، غبية وشاذة، تحولت إلى كوابيس تطارد هذه الشعوب في وعيها ونومها، لتصحو ذات صباح على بلاد مقسمة منكوبة تشتعل فيها الحرائق الطائفية، وتبدو عصية على التوحد والاتفاق، ومهددة بالتشرذم والانقسام.
لقد قام البعث العراقي بمهمته على أكمل وجه، وخلق واحدة من أبشع الديكتاوريات وأكثرها دموية على الإطلاق، وبذا بعث فعلاً إلى السطح، كافة الفتن، والأوبئة، والأمراض الاجتماعية الكامنة التي راكمتها عقود من القمع والصراع والعبث، والهوس الحربي المجنون، وفجّر صراعات عبثية ولا بعثية، لا تنتهي عبر اضطهاد الأقليات العرقية والدينية والسياسية الأخرى وعدم الاعتراف بشرعيتها وبوجودها مطلقاً، وعبر ممارسات طائفية علنية، وتعطيل كافة أشكال التعبير السياسي، والقضاء كليا على المبادرة الفردية الفعالة، السبيل الأمثل للازدهار الاقتصادي، وأطلاق القطعان الأمنية المسعورة لمواجهة أي نوع من الاحتجاج على هذه السياسات المدمرة. وقد يقول قائل لم تكن الأمور بهذه الحِدة من الانفلات أيام "المهيب الركن المجاهد نصره الله"، وكان هناك نوع من الأمن والهدوء. والجواب طبعاً بنعم، لقد كان هناك قمع وليس أمن، وهناك خيط رفيع جداً، قد لا يرى بين الاثنين، وأيضاً لينظر صاحب السؤال إلى ما آلت إليه الأمور حين رفعت القبضة الأمنية، وأن ذاك الأمن المزعوم لم يكن في الحقيقة سوى عامل انفجار محتوم ومعطل مؤقتاً، وهذا ما حصل بالفعل لاحقاً. والقبضة الأمنية الحديدية والفولاذية، ومهما كانت متعسفة وغاشمة وقوية، ستتآكل بفعل عامل الزمن، والطبيعة وتتعرض للصدأ والتكلس والاهتراء.
كما أدت الممارسات العشائرية، وحكم العائلة الواحدة، والاستئثار بالسلطة والثروة، والاستبداد، وإرهاب الدولة المنظم، والسلب، والنهب، والقمع، وتأليه الزعماء، وإلغاء القانون، ودعم وتبني والتحالف مع القوى الماضوية، إلى مراكمة عوامل انفجار كبير، وفصم عرى النسج الاجتماعية، وتمزيق المجتمع، وانهيار الاقتصاد، واستغل الخارج كل عوامل الانفجار هذه للتدخل في شؤون البلاد معتمدا على حجم الإحباط واليأس الكبير الذي كونته ممارسات التسلط والقهر العمياء. وكانت المعالجة الأمنية، غالباً، وغير السياسية، هي الخيار الوحيد المتاح الذي لجأ له حكام البعث للتصدي لمختلف الأزمات التي واجهتها هذه المجتمعات، وقد أدت لاحقاً إلى انعدام متجذر، ومستفحل لكافة إمكانيات التعامل المنطقي والمؤسساتي الدستوري والقانوني مع حالات المد الاجتماعي، والتغير السياسي، والتطور الاقتصادي، والتي كان لها لو عوملت بحذر ومهنية واتقان، لحافظت كثيرا على هذه المجتمعات من التحلل والاضمحلال.
واليوم، وفي ظل، هذه الحالة المتردية من انعدام الأمن والأمان، والمشهد الضبابي الدموي العام، الذي كان حصيلة منطقية لما ساد من ممارسات، ما الذي بعثه البعث فعلاً؟ وهل ميلاد الحزب هو مهرجان للاحتفال الشعبي ؟ أم مناسبة للحداد القومي؟
وهل هو تأسيس لحزب قومي ؟ أم لحزن عربي عام؟

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com