ديمقراطية العنقاء في الوطن العربي، وجدل النص الديني

مهند صلاحات / كاتب فلسطيني مقيم في الأردن

salahatm@hotmail.com

مصطلح الديمقراطية هو مصطلح قديم جداً منذ أيام اليونان ويعني حكم الشعب، وهو كقيمة فكرية لا يعني أن تعطى للشعب كامل الصلاحية في أن يطلق الحكم، فذلك سيؤدي بالتالي إلى الفوضى، وقد اجتهدت المذاهب الفكرية الحديثة في إيجاد صيغة لهذه القيمة تتناسب مع المستجدات الفكرية والتكنولوجية للمجتمعات، فقد رأى كارل ماركس ومن بعده لينين أن الديمقراطية المركزية أو الديمقراطية الحزبية هي أفضل الطرق لتطبيق الديمقراطية وجعل حكم الشعب يتمحور من خلال حكم الحزب الشيوعي الذي يحاول أن يضم في صفوفه الغالبية العظمة من الشعب ومن خلال القرار المركزي للحزب يكون الشعب قد شارك في أن يعطي حكم للأغلبية مع احترام رأي الأقلية، بينما رأى أنصار المذهب الليبرالي الرأسمالي بأن الديمقراطية النيابية قد تكون أفضل، و في كلا الحالتين لم يخرج أي من المذهبين عن نطاق الفلسفة اليونانية التي بدأت من نظرية العقد الاجتماعي في مقابل نظرية العقد الإلهي، فكلا الحالتين سيحدان بالتالي من تسلط السلطة الحاكمة واستبدادها في اتخاذ القرار المصيري لشعب كامل، فكانت نظرية الأسطورة اليونانية حين منح زيوس سلطته للشعب وصار الشعب يمنحها للحاكم ويشاركه القرار فيها.

أما الوطن العربي الذي يعاني تناقضات أكبر بكثير من التناقضات التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى بحاجة لإعادة نظر في الكيفية التي يمكن فيها إخراج الوطن العربي ككل من صياغته الحالية والتي تؤدي به لمزيد من التخلف والتعمق في الاضمحلال الفكري والسياسي والاجتماعي، ولم يزل العالم العربي يعيش نقائضه وتعليق أخطاءه على شماعة الآخرين، وتسيطر نظرية المؤامرة على عقول الغالبية العظمى من كتابه ونقاده سواء السياسيين أو الاجتماعيين.

 وفي ظل محاصرة الأفكار التي تسند حالة التردي التي يعيشها المواطن العربي إلى الغرب نجد الكاتب العربي دوماً يقع في مأزق الرفض الاجتماعي له، فالكاتب أو المثقف العربي الذي يبحث عن مساحة ديمقراطية يقع بين حربتين موجهات لصدره، فمن ناحية نجد معظم الحركات الإسلامية ترفع في وجهه سلاح التكفير بحجة الترويج لأفكار الكفر الغربية من ديمقراطية وتعددية وحقوق إنسان، ومن ناحية أخرى نجد أن البعض من مدعي التقدمية يرفعون بوجهه سلاح التخوين والولاء للغرب الاستعماري.

ومن ناحية أخرى لا يمكن تبرئة الأنظمة الرأسمالية الغربية من دم ومأزق الشعوب العربية، فهي الأخرى لها دور كبير في حالة التردي التي يعيشها الوطن العربي بعيداً عن نظرية المؤامرة الكبرى وما يسميه بعض المفكرون الإسلاميون " صراع الحضارات"

 الحقيقة أن الوطن العربي يعيش حالة مزرية جداً من التناقض والتخلف وتهميش القيم الإنسانية بشكل يفوق حالة أوروبا في العصور الوسطى، وسيطرة الإقطاع والكنيسة والسلطة الدينية والرجعية على قيم المجتمع، فالإقطاع في الوطن العربي تمثله اليوم الأنظمة العربية كافة من شرقه لغربه، بينما تمثل الحركات السياسية الإسلامية السلطة الكنسية الأوروبية وهنا يضيع المثقف العربي بين كلا الحالتين، ويزيد الأمر سوءا أن نجد حالة التردي الفكرية هذه تعشش في عقول جزء من المثقفين العرب الذين اتخذوا من التكفير والتخوين آليات التصدي إلى وجهات النظر الأخرى.

 

 التكفير سلاح مسموم في جسد المجتمعات العربية:

 ما يحتاج إليه الكاتب العربي  اليوم عند التطرق لقضايا فكرية ومنهجية وأيدلوجية، قبل أن يَجلد القارئ بخُطبة عصماء على غرار الخُطب التي نجلد فيها اليوم من خطباء المساجد دون أي محتوى فكري لذاتية الخطبة، والتي تكون على شكل تكفير لأشخاص واستعراض تاريخي لبطولات الأوائل، لا بد أن يتوفر لديه منهجية حوار حقيقية تتمثل في منهجية الحوار الواقعي التي متمثلاً بالآتي :

 

أولا : قراءة النص أو الفكرة قراءة شافية, وفهم مفرداته والمقصود منه.

ثانيا : تقسيم الفكرة لصحيح وخاطئ، أي بعبارة أخرى التطرق للوجهين، الإيجابي والسلبي من الفكرة كي يكون التحليل حيادياً على الأقل، ليمنح القارئ شرعية الحكم النهائي أو إبقاء الباب مفتوحاً للقارئ ليحكم على مدى صحة أو فساد الفكرة، فيمكننا التطرق لفكرة نرفضها لكن نحاول إبراز جوانبها السلبية وحسناتها ونبقي الباب مفتوحا للحكم عليها من قبل القارئ الذي يأخذ هنا دور المحكمة في الحكم على النصوص.

الحكم على الصحة في الفكرة إن صحت ذاتية الفكرة من خلال أدلة الواقع.

نقض الخطأ لا يكون بمجرد أن نقول عنه خطأ، بل بإقامة الحجة عليه بالأدلة الفكرية، أو الواقعية، أو إبراز مخالفته للعقيدة التي يتبناها الكاتب الرافض للفكرة، أو إبراز تناقضها أو مخالفتها للواقع أو لفكر ما.

فمثلاً لو حاولنا النظر لأكثر فكرة جدلية تواجهها المجتمعات العربية التي لا تعي تماماً الفكرة وأصولها، وهي العلمانية أو المجتمع المدني أو المجتمع العلماني، أو الديمقراطية التي هي أبرز مظاهر المجتمع المدني أو العلماني، نجد أن الهجوم عليها بدء من قبل المفكرين والفقهاء الإسلاميين قبل محاولة تفسيرها بالشكل الصحيح فيأتي أحد الكتاب العرب ليقول : إن الاعتقاد بفساد وكفر العلمانية هو اعتقاد كآفة علماء المسلمين القدامى والمعاصرين.. وهو الاعتقاد السائد في الأزهر الشريف والذي يدرس لطلابه ،

ولم يقف الحد هنا بل إن هذا الكاتب تحدث عن أبحاث ودراسات ذكر منها على سبيل المثال: رسالة علمية لواحد من علماء الأزهر هو الأستاذ الدكتور / يحيى هاشم حسن فرغل والتي حصل بمقتضاها على درجة الدكتوراه وعنوانها (( حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب )) تلك الرسالة انتهى فيها صاحبها إلى كفر ( العلمانية ) وإلحادها من أكثر من عشرة وجوه .. وانتهى كذلك إلى كونها تخريب للأوطان والدين، والتاريخ، والمجتمع..

 هذا الكاتب الذي ذكر أن علماء المسلمين القدماء والمحدثين حكموا بكفر العلمانية، ولكني استغرب حقاً هل عاش المسلمون الأوائل العلمانية التي هي كفكرة متجسدة على ارض الواقع منذ القرن الثامن عشر بعد انتهاء عصر الإقطاع وبداية على يد البرجوازية ؟

 مثل هذه المغالطات تضع الحجاب على عيون العامة في المجتمعات العربية وتخوفهم من هذا الوحش الذي أسمه الحرية، حيث يستغل التكفيريون العاطفة الدينية لدى الشعوب العربية في تخويفها من حريتها تحت مسمى، كل ما يقابل الدين فهو هدام وحرام، بالتالي نجد أن هذه الدعوات التكفيرية حظرت بشكل كلي عن المجتمعات العربية القيمة الديمقراطية الحقيقية، وفي المقابل فتحت الباب أمام الدول الإمبريالية لتدخل الدول العربية تحت مسمى نشر الديمقراطية والتي لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية العنقاء، أو الديمقراطية الخيالية التي تأتي على ظهر طائرة أو حاملة طائرات أو دبابة.

 العلمانية في مقابل الدين، ولا يعني النقيض أنها تلغي وجود الدين، فالرأسمالية هي علمانية لكنها تسخّر الدين في خدمة مصالحها كما يفعل السيد بوش بخطابه المسيحي الذي يوجهه إلى العالم.

لكن كل ما هو وضعي هو علماني

لان الدين كالدين الإسلامي مثلا يعطي تصور شامل عن الكون و الإنسان والحياة لذلك نرى الإسلام أيدلوجية كاملة إن تم فهم الإسلام بالمنظور الفكري له لا الكهنوتي الشعائري.

ولكن حين تتداخل الأنظمة الفكرية الأخرى كالاشتراكية والرأسمالية في المجتمع وتأخذ مكان نظرة الدين ويصبح المواطن يخضع لنظام رأسمالي ويمارس شعاره الدينية بنفس الوقت يكون فردا علمانياً.

 

ما الذي أنجزته الحركات التكفيرية ومثقفيها في الوطن العربي منذ نشأتها وحتى اليوم ؟

 من السهل جداً على مثقفي الأحزاب العربية الإسلاميين والحركات الإسلامية هذه أن تتخذ سلاح (التكفير أو معاداة الدين) سلاحاً فعالاً لقمع وجهة النظر الأخرى التي تدعو للانفتاح العربي على العالم ونبذ قيم الاستبداد والتخلف في المجتمع، كما أن بعض الحكومات العربية تدعم وبشكل علني بعض هذه الحركات الإسلامية لتكون واجهة لها في تثبيت دعائم الديكتاتورية العربية بحجج مختلفة وبالتالي نجد أن الحركات الإسلامية تتفنن في التقصي في داخل الشريعة الإسلامية عما يثبت دعائم الأنظمة بإيجاد منظومة من الآيات والأحاديث النبوية التي تدعو للولاء للحاكم باعتباره "ظل الله على الأرض" وأن طاعة الحاكم و "أولي الأمر" من طاعة الله ورسوله.

 ومن ناحية أخرى نجد أن الحركات الراديكالية منها صنعت فجوة في المجتمعات العربية بدلاً من أن تعمل بدورها الحقيقي في إعادة نسج المجتمع كنسيج واحد يستطيع التصدي للقيم غير الديمقراطية، وغير الإنسانية التي تمارسها الأنظمة العربية وغيرها في المجتمعات العربية، وبذلك تعمل هذه الحركات التكفيرية على خدمة القوة الإمبريالية العالمية،  وبنفس الوقت إبقاء المجتمعات العربية في اضمحلالها وتخلفها، وبناء حاجز صد يمنع دخول الديمقراطية الحقيقية للمجتمعات العربية لتصبح منهج حياة يومية، ونجد أنها ساعدت في ترسيخ حكومات قمعية استبدادية تحت مسمى الدول الدينية بحجة أن المجتمعات المدنية هي مجتمعات كافرة.

 أما في الدول العربية التي اتخذت المنهج العلماني منهج حكم، نجد أن الأنظمة وحتى حركات المعارضة سواء التي تدعي اليسارية أو الليبرالية في منهجها غير قادرة على الخوض في مسألة التكفير الديني لأنها في الأصل متهمة ضمناً بالكفر، فنجد أن هذه الحركات ابتدعت أسلوب التخوين كرديف لمفردة التكفير في رفض وجهة النظر الأخرى ومن هنا نرى أن التكفير والتخوين أسلحة خطيرة يحملها المدافعين عن الأنظمة واستبدادها في الدول العربية، ونجد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية صارت تجد مواجهة عنيفة من قبل الحركات والأنظمة العربية وفي النهاية هذه الأسلحة تنتصر لصالح القمع والديكتاتورية في مقابل الحرية والديمقراطية.

 إذا فالتكفير والتخوين أسلحة خطيرة جداً تقف في وجه التحول الديمقراطي في الوطن العربي، بذات الوقت تعتبر معوق ثقافي يحد من الإبداع الفكري والثقافي والأدبي، فتكفير وتخوني المثقف والمفكر والأديب يمنعه من الإبداع بالتالي يضعه في زاوية الانطوائية ويعيش عقد اجتماعي تتعدى مجرد صدامه مع السلطة وعلاقته كمثقف بالسلطة إلى كونها عملية فسخه عن المجتمع فسخاً كاملاً.

 

 ما العمل :

 إن الصدام مع هذه الحركات لا يمكن أن يكون فعلاً، فهذه الحركات قمعية راديكالية فوضوية وبالتالي الصدام العسكري معها سيزيد من شوكتها، وكذلك من مؤيديها، فالحل يكون في تعرية هذه الحركات الدموية والمتخلفة على حقيقتها، وكذلك العمل لا يكون في المواجهة العبثية في مقابل هذه الحركات والأنظمة، بل يكون في العمل الحقيقي على إيجاد مؤسسات مجتمع مدني، والتي هي أبرز مقومات الديمقراطية والتجسيد الحقيقي لها على ارض الواقع، كما أنها تمثل إن امتلكت الثقل المطلوب أن تبدأ بالتغيير والتصدي المنهجي لكل من دعاة التكفير والتخوين، وإيجاد منهجية فكرية واقعية تحرر الفرد العربي أولاً من ثقافة الخرافة والولاء التي تتملكه فجعلته يلجأ هو نفسه إلى إيجاد سلطة تحكمه سواء دينية أو فكرية مشوهة، فلا القيمة الدينية الحقيقية قادرة على تغيير أفكاره نحو الأفضل بالتالي ينعكس سلوكه السلبي إلى إيجابي ولا حتى القمعية الفكرية الحقيقية قادرة على تغيير أفكاره، فلا بد إذا من السعي نحو التغيير عن طريقة إقامة منظومة كاملة من مؤسسات المجتمع المدني الليبرالية الفكرة، ونعني بالليبرالية بالمعنى الحقيقي لها أي الحر لا الرأسمالي حصراً، ومن هنا يكون التغيير من الداخل دون الحاجة لأن يكون التغيير من الخارج والذي يضطر معظم حركات المعارضة العربية التقدمية إلى اللجوء إلى الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية لتغير الأنظمة لدينا بمنطق الجيوش، وبالتالي نقع في ورطة الاحتلال بدلاً من أنظمة القمع ونبقى ندور في دائرة مغلقة.

ومن هنا نجد أن هذه الحركات كالفطر، بيئتها المناسبة هي بيئة التخلف، وبالقضاء على التخلف نكون قد قضينا على أسباب وجودها وبقاؤها في داخل مجتمعاتنا، فالاجتثاث لهذه الحركات لا يكون على طريقة أمريكا أو الأنظمة، بل يكون في توعية الشعب بخطر هذه الحركات من ناحية، ومن ناحية أخرى تفعيل دور المؤسسات الأهلية والمدنية لكي يصل المواطن العربي لنتيجة حتمية بأن هذه الحركات هدفها الأول والأخير هو الحد من حرية الفرد وتقدمه.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com