قوائم الموت

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

طالعتنا بعض المواقع الإليكترونية بصدور قائمة تضم عدداً من الكتاب العرب العلمانيين والتنويريين مهددة إياهم بالموت إن لم يتراجعوا عن أفكارهم الهدامة، وكانت كالعادة، بتوقيع أحد "الأبوات"، الملثمين والأشباح النكرات المتخفين، من عصابة "اللهو الخفي". ورغم أن البيان رقم واحد هذا، والله يسترنا من البيان رقم 2"، يحفل بالكثير من الأخطاء النحوية والإملائية الفادحة، وحتى في بعض الآيات القرآنية، ولا يمكن أخذه كلياً على محمل الجد، كما لا يمكن تجاهل أهمية ما احتواه، فإنه يعكس، وفي الحقيقة، طبيعة ثقافة سائدة ومتجذرة، لا تؤمن سوى بالبتر، والموت والاستئصال كوسيلة واحدة ومجدية للتخاطب والحوار، وتنعدم فيها سبل التواصل والتعايش والاتفاق بين الناس. وفي واقع الأمر، قد لا تعتري المرء البتة أية دهشة بصدور قوائم للموت، وأخرى للفقر، وثالثة للأمية، ورابعة للتعذيب....إلخ في هذه المجتمعات الموبوءة والمنكبة، ولكنه سيصاب بقمة الانبهار لو صدرت قوائم للحياة، والازدهار، والتسامح، والتوحد والتصالح بين الناس. وكل هذا الهذر هو في السياق العام، ولا يخرج قيد أنملة عما هو متعارف عليه، وحي متداول من خطاب، ولذا كنا سنصاب بنفس القدر من المفاجأة والذهول، لو صدر، مثلاً ، ومعاذ الله، عفو عام، أو دعوة للمّ الشمل، وتوحيد الصف، وتجاوز الماضي الأليم، أو لو صدر نقد وتقييم، ومراجعة للتجارب والذات، واعتراف بالأخطاء، ومحاولة للتوبة، والرجوع عن كل هذا الزلل، والجموح، والفلتان.
ومن الجدير ذكره، فإن هكذا بيانات، وبلاغات خارجة عن القانون والشرعية تلقى التأييد والدعم، من قطاعات واسعة وغير محددة من الناس، نظراً لما تشرّبوه منذ الصغر من هذا الفكر الضال، لا بل يقابل أحياناً، بمزيج عالٍ من التهليل، والمدح، والإطناب، والإعجاب. وفي تاريخ الاستئصال الفكري الدموي في هذه المنطقة، هناك الكثير من هذه الحالات، حيث امتدت يد الإرهاب الأسود لتطال أكثر من مفكر، وكاتب، كما تم تكفير وتهجير عدد لا بأس به من حملة الأقلام. ونظراً لانعدام وجود آليات ردع قانونية زاجرة لمثل هؤلاء، فقد أصبح المجال مفتوحاً، والساحة فارغة ومستباحة لتفريخ المزيد والمزيد من القتلة والأشقياء. والحقيقة الأهم، أن لا قيمة مادية ومعنوية، تذكر، لهكذا بلاغات حين يتساوى الموت والحياة، لا بل قد يصبح الموت في أحايين كثيرة مشابهة، أكثر من مجرد أمنية، ووسيلة للخلاص من الشقاء والعذاب في هذه الأصقاع، التي لا تعرف الفرح، ولا تولد سوى البؤس وكدر العيش، والأحزان.
وتُعزز مثل هذه البيانات الفارغة، والعنتريات الإليكترونية الجامحة، وبغض النظر عن أية تداعيات جدية محتملة، أو غير محتملة، القناعة الراسخة في هذه الثقافة بأن لا مجال أبداً لقبول أي تباين، أوتمايز، واختلاف بالآراء. وأن ثقافة القطيع، وفكر الجماعة هو السائد، و ليس وارد، أيضاً، و"حتى ساعة إعداد هذا البيان"، الاعتراف بالآخر ومهما كان. وبأن هذه الأنماط التفكيرية التكفيرية الشاذة، ما تزال هي السائدة في هذه الأوساط، وبقاؤها تراوح في مكانها منذ خمسة عشر قرناً بالتمام والكمال.
لا أدري ما الجدوى من إصدار مثل هذه البيانات ضد أفراد بعينهم، طالما أن الحكم الجماعي بالإعدام على مجتمعات كاملة بحالها قد صدر ونفذ على أية حال. وأن حالة الموت السريري العام قائمة، وظاهرة وبادية للعيان. ولن تتمكن بضعة مقالات لهذه الثلة النيّرة من الكتاب، وبرغم أهميتها(المقالات)، من إنعاشهم، ودب الحياة فيهم فوراً. وطالما أن الجهلاء والأدعياء، ووسطاء الأرض والسماء هم القادة الفعليون والمتحكمون بالعامة والدهماء. وما هذه البيانات في نهاية المطاف سوى تكريس نمطي ممل، وتعبير راسخ عن الذات المريضة، الشاذة والمنحرفة، التي لا ترى في الآخر سوى عدو ومشروعا لثأر، وتكشف كل ما فيها من عقد ونواقص، وأوهام، وتبين الطبيعة الحقيقية والمجردة لكوامن هذه النفوس والعقول التي جبلت عليها هذه النوعية من الناس والتي يعشش فيها الإجرام، والرغبة في الثأر، والنية الجامحة في الانتقام. فبمجرد أن ترى أي منهم، بمقدورك أن تتكهن ببعض لا بأس به بما في ذاته، وربما تقرأ بعضاً من أفكاره، لا بل قد تتنبأ، وبنسب عجيبة لا تخطئ من الدقة والتطابق، عما قد يقوم، ويأتي به من سلوك، وأفعال.
لموضوع برمته، لا يستأهل التوقف عنده طويلا، وغير ذي أهمية من الناحية اللوجستية، حيث تعجز أقوى أجهزة الاستخبارات عن تنفيذه بالسرعة المأمولة، أو الإحاطة التامة والدقيقة بكل ما جاء في مضمونه من معلومات، بعضها خاطئ كلياً، وعار من الصحة تماماً، ولو كان لديهم بالفعل كل تلك القوة، والمعلومات الدقيقة، لما توقفوا ثانية واحدة، عن التنفيذ، إرضاء لما تأصل في نفوسهم من نوازع انحراف، وإجرام، وضلال.
وسيبقى "الأبوات"، والملثمون المجرمون المتخفون في الجحور والأوكار، بعيداً عن طائلة القانون، يكفّرون هذا وذاك، ويستبيحون دماء وحياة الناس، وطالما أنه لا يوجد قانون وضعي يضع حدا لهم، ويكبح جماحهم. وسيستمرون لوحدهم، النجوم الساطعة، والمتلألئة في هذه الأصقاع المنكوبة بثقافة الموت، والإقصاء. وستبقى هذه الأرض، والمجتمعات، وبكل أسف، وبما يتوفر، حتى الآن من دلائل، ومعطيات، حبلى بالأوجاع والآلام والأمراض، وتصدّر فقط قوائم للموت، أما قوائم الحياة فمعطلة، تماماً، وحتى إشعار آخر.
إحدى الأخوات العزيزات ممن ضُمِّن في قائمة الموت، وعلى سبيل الدعابة والهزء من كل هذا الشطط والهذيان المعبّر أصلاً، عما يضمره عشاق الظلام تجاه رواد النور والحياة، أبرقت لي ساخرة ومطمئنة، وبدت رابطة الجأش بعض الشيء، قائلة "إذا كان تنفيذ الأحكام بنفس الترتيب فإن "دورنا" بعيد جداً. وهنا تذكرت ما قاله ذاك الرهينة في مسرحية زياد الرحباني "نزل السرور"، حين أعطاه "عباس"، قائد عملية اقتحام النزل الرقم 7 لتنفيذ حكم الموت فيه، إن لم تقم الثورة، "يكتر خيرك ياسيدنا على ها الرقم". وأنا بدوري، لا يسعني أيضاً، إلا أن أشكر مجلس شورى الجماعة المعظم على هذا الرقم، والحمد لله، وأتضامن، في الوقت نفسه، مع الزملاء "المنحوسين" الذين وردت أسماؤهم في باكورته. وربنا لا تؤاخذنا أبداً بما فعل السفهاء منا.


*خاطرة على الهامش:
يا دامي العينين والكفّين إنّ اللّيلَ زائلْ
لا غرفةُ التّوقيفِ باقيةٌ ولا زَرَدُ السلاسلْ
نيرونُ ماتَ ولَم تَمُتْ روما بِعَينيها تقاتلْ
وحُبوبُ سُنبلةٍ تَجُفُ
ستملأُ الوادي سنابلْ (محمود درويش)
لا ضير ولا خوف البتة، إذن، وحسب بشارة الشعراء، وقانون الطبيعة الحياة، فحبوب، أية سنبلة تجف، ستملأ الوادي سنابل، وأية دماء طاهرة تسال، ستروي عطش هذه الليالي البهماء، ليلج بعدها، فجر ذو شعاع باهر وضّاء.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com