|
بغداديات .. الى الذين ستنـتـف لحاهم
بهلول الكظماوي / أمستردام بداية : احب أن اسجّل أسمى آيات شكري و امتناني للاخوة الذين اتصلوا بي مستفسرين عن حالتي الصحيّة و الذين يدعون لي بالشفاء , هؤلاء الذين أدين لهم بعد الله بالبقاء على قيد الحياة رغم صعوبة مرضي واشتداد حالته , معاهداً إياهم أن أكون دائماً و أبدا و حتى الرمق الأخير مدافعاً عن قضية شعبي الجريح , هذا الشعب الذي افتقر من بعد غنى , وجاع و هو يجلس على بحيرة عائمة من الذهب الأسود الذي يتمتع بثروته هذه كل ضباع الأرض و وحوشها المفترسة في حال هو ( الشعب العراقي المظلوم ) يحصد الجوع و التشرد و المرض و الإرهاب و الحرمان من ابسط مقومات الحياة البشرية , متقرباً بهؤلاء المظلومين إلى الله تعالى راجياً أن يشفع لي بحق مظلوميتهم يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون . البغداديّة : يحكى انه كان بإحدى القرى الكردية في شمال عراقنا الحبيب مسجداً يؤمّه الناس بكثرة , وذلك بفضل امام جماعته , اذ كان شيخاً جليلاً عالماً حكيماً, عطوفاً على الناس, فاعتاد الناس على مشورته و مساعدته في كل صغيرة و كبيرة . و بمرور الأيام وجد شيخنا الجليل أن المصلّين خلفه بدءوا يقلّون شيئاً فشيئا , إلى أن وصلت الحالة إلى أن يلتفت ورائه في آخر الأيام ليجد انهم لا يتجاوزون الثلاثة أشخاص فقط . فسألهم عمّا جرى لأخوتهم الباقين, فصارحوه : إن الشيخ ( فلان ) امام المسجد الجديد و الذي قدم حديثاً إلى القرية قد استقطب الناس من حوله , فهو يتسامح معهم في الحقوق الشرعية و يختصر لهم الكثير من العبادات و الواجبات المفروضة, ونتيجة لحذاقته و لباقته جعل الناس البسطاء الطيبين يلتفّون حوله و يتركوا الشيخ الجليل الذي طالما خدمهم و ضحى براحته لأجلهم. هنا حزّ في نفس الشيخ الجليل و ارتأى أن يخرج أحد الشيخين من القرية من أجل أن لا يتفرّق الناس , فدعى إلى مناظرة بينه و بين الشيخ الجديد . وبالفعل حدد يوم معين من أجل المناظرة و المباراة بالعلوم الدينية فيما بين الشيخين و كانت الآلية المتبعة أن تكتب الأسئلة على ورقة و تقدّم إمام الجميع ليجيب عليها الطرف الممتحن , ومن يسقط منهم في ثلاثة أجوبة يتوجّب عليه الخروج من القرية و تركها للشيخ الفائز. و قاد دهاء الشيخ المحتال ( الشيخ الجديد الوافد إلى القرية ) و مكره بأن يشترط على ألاّ يكون الجواب بالنفي كلمة ( الله اعلم ) فامّا أن يقول الممتحن في جوابه بما يعلمه , أو يقول لا اعلم . و حينما حانت ساعة الامتحان تملّص الشيخ المحتال من أن يكون الأول بحجّة أن الشيخ الجليل هو الأكبر في السن إضافة إلى أقدميته في القرية و إن من الأدب يتوجب عليه أن يقدّمه على نفسه بالامتحان . وابتدأ الامتحان , فأخذ المحتال يسأل الشيخ القديم سؤاله الأول على ورقة كتب عليها ( متى ستموت ؟ ) و كان السؤال موجّهاً باللغة العربية التي لا يتقنها سكان القرية , فلم يستطع الشيخ الجليل إلا أن يقول مجيباً بالكردية ( نيزانم ) أي بمعنى : لا ادري! و ذلك لان من شرط المباراة أن لا يقول ( الله اعلم ) , بل يقول : لا ادري أو يقول ادري و يجيب . أما السؤال الثاني فكان مفاده : ( ماذا ستلد زوجتك , أغلاماً أم بنتاً ؟ ) فكان من الطبيعي أن يجيبه بكلمة ( نيزانم ) أي لا ادري ! أمّا السؤال الثالث فكان : ( أين هو أبوك المتوفّى , أفي الجنّة أم في النار ؟ ) و كان الجواب كذلك ( نيزانم ) ! و حينذاك ضجّ الناس بالتكبير و التهليل إعجابا و إكبارا بالشيخ المحتال ! و كان لزاماً على شيخنا الجليل أن يترك القرية حسب الاتفاق المبرم . و لكن قبل تركه لقريته التي ولد و ترعرع فيها و سبق أن عقد له اللواء لزعامتها و ادارتها و خدمة اهلها وامامة مصليها لعقود من السنوات , عزم صاحبنا الشيخ الجليل على الاّ يغادر قريته قبل ان يثأر لنفسه و لاهل قريته من الحيف الذي اصابه من المحتال الجديد و يلقّنه درساً قبل أن يرحل فقال للشيخ المحتال إمام جميع المؤمنين : أنا اعترف بعلميتك و رجاحة عقلك التي تغلبت بها علي , ونحن عندنا عادة أن نتبرّك بهكذا عالم جليل مثلك بأن نأخذ شعرة من شعرات لحيته نتبرّك بشمها و تقبيلها بعد كل صلاة ! ولمّا كان طلب الشيخ الجليل من الشيخ المحتال بسيطاً , لبّاه له في الحال , بل أعطاه عدّة شعرات بدل الشعرة الواحدة , أخذها الشيخ الجليل ليضعها بين طيات منديله و يخرج مودعاً قريته على كره منه ! ... و لكن ؟ و هذه الـ ( لكن ) فتحت عليه باباً لبقية الناس , فأتى كل واحد منهم طالباً شعرة من شعرات لحية الشيخ المحتال إلى أن أتوا على جميع لحيته فاصبح املطاً. و ألان عزيزي القارئ الكريم : يبدوا أنّ بعض المغرّر بهم استجابوا من حيث يشعرون , أو من حيث لا يشعرون لفتن و دسائس البعثيين و التكفيريين إضافة لضعاف النفوس من الحوزة النفعية البراغماتية الذين همهم ما يعتلفونه من أقوات و يمتصونه من دماء المستضعفين . يبدوا انهم استجابوا لضغوط البعثيين و التكفيريين المسدّدين بدعم أسيادهم الانكلو أمريكان لتنحية من اختاره الشعب العراقي عبر انتخابات شرعية شارك فيها اكثر من أحد عشر مليون عراقي خرج لأدائها بدمه متحدياً فيها مفخخات الإرهاب . نعم خرج شعبنا الجبار رغم علمه بمخاطر و وعورة الطريق بكل نسائه و رجاله شباباً و شيوخا مصوتين لمرشحهم المطلوب بديمقراطية شفافة اتفق عليها الجميع بما فيهم الذين رفضوها بعد أن تبينت لهم خسارتهم لها فيما بعد . أنا شخصيّاً لا أعير أهميّة لأيتام حزب البعث العفن أو لمرتزقتهم الإرهابيين أو لأسيادهم الانكلو أمريكان و مبعوثيهم سواء كانت السيدة ( القندرة رولز رايز , أو الجايف سترو , أو الزمال خليل زاد ) و كذلك لست قلقاً على الأحد عشر مليون ناخب من شعبنا العراقي الصابر المجاهد و عن مصير جهودهم التي بذلوها رغم الأخطار التي كانت محدقة بخروجهم للتصويت , لأنهم أدوا تكليفهم الشرعي و واجبهم الوطني أولا , و لأنهم يعرفون سلفاً أن طريق الحق محفوف بالوعورة و المطبّات و بناء الوطن يحتاج منهم اكثر من هذه التضحيات و قد تعودوا منذ آماد بعيدة على التغلّب على الصعاب و الصبر في الملّمات. ولكن كلّ قلقي ينصب على مصير دنيئي النفوس البراغماتيّين الذين سال لعابهم لّلعبة القذرة التي يلعبها البعثيون و التكفيريون المدعومين بخطط خبيثة و طبخات معلبة من أسيادهم الانكلو امريكان. هذه اللعبة التي ضنّوا انهم ( البراغماتيون ) سيكون لهم نصيب من كعكتها , بينما هي ستطيح بهم لاحقاً ناتفةً لحاهم واحداً بعد آخر كما هو حال صاحب قصّتنا البغداديّة أعلاه . و عندها سيتحقّق المثل العربي المأثور الذي يقول : من حفر بئراً لأخيه وقع فيه . و دمتم لأخيكم بغدادية عاجلة : بعد القاء تحية الصباح و نحن نلتقي صدفة في الطريق العام صباح هذا اليوم بادرني السيد ( سحس ) بالمثل العراقي قائلاً : ( يا حاج انّ صاحبنا زرب بالجدر و حرم العيال ). و ( سحس ) حسين المصري هذا كنت قد تعرفت عليه في العراق قبل اكثر من عشرين عاماً اذ كان يزور اصدقاءه من المصريين الذين كانوا يشتغلون في معملي بالعراق . مكث سحس اكثر من عشرة اعوام في العراق ليغادر بعدها الى العمل في جنوب لبنان احد اهم معاقل حزب الله . ثم التقيته قبل عامين في امستردام اذ قدم للعمل في هولنده , لكنه لا يزال يحلم ان تتحسن الاوضاع في العراق ليرجع اليها لقناعة لديه و لدى الكثير من العمال المصريين الذين جالوا كل بلاد الدنيا و خاصة الدول الخليجية العربية منها فلم يهنئوا بعيش و لم تطب لهم اقامة شريفة بعيداً عن الذل و الاهانةالاّ في العراق. و المثل : زرب بالجدر او حرم العيال تقال بمعنى انه تغوّط في قدر ( طنجرة ) الطهو و حرم عائلته من استعماله . وكان سحس يقصد بها ان الرئيس المصري حسني مبارك حينما صرّح ليلة امس لقناة العربية الفضائية بأنّ الشيعة ولائهم ليس لدولهم , حرمت هذه التصريحات العمال المصريين من العودة للعمل في العراق مستقبلاً بعد ان تهدأ الاوضاع انشاء الله حيث سيشهد البلد حركة اعمار و بناء عملاقة تتسابق عليها كل شركات العالم و تستقطب عمال من شتى بقاع الارض و العامل المصري اولى من غيره لانه سبق و ان عمل في العراق , وقد فاق عدد العمال المصريين منتصف الثمانينات في العراق و تجاوز عددهم الخمسة ملايين عامل. فطمأنت الاخ حسين المصري ( سحس ) بانها لا تزر وازرة وزر اخرى , فما ذنب العمال المصريين ان يؤخذوا بجريرة رئيسهم . و حتى رئيسهم قد يكون قد استقى معلومات خاطئة مررتها له جهات تقصد الاساءة الى الشعب العراقي, فلكل جواد كبوة , وآمل منه ان يتدارك الامر و يصحح معلوماته. مع كل تحيتي و محبتي لاخوتي المصريين الثمانية و العشرين عامل الذين كانوا يعملون معي في معملي في العراق . انتهى.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |