ذِكرى العَطاء والدُمُوع

قاسم محمد الكفائي / كاتب عراقي - كندا

alkefaee_canada@hotmail.com

الذكرى السادسة والعشرون لأستشهادِ الأمام والمفكر والمُجدِّد السيد محمّد باقر الصدر قد حلَّت وأَرْخَتْ علينا بأحزانها ، والدموعُ تنهمر لا تتوقف ولا تنضب مواساةً منّا لجده الأمام جعفر الصادق – عليه السلام – الذي يعد الصدر نموذجا مشابها له . في هذه الذكرى وكلِّ ذكرى مرَّت أو تمُر تتجدَّدُ عطاءاتٌ في نفوسِنا وعقولِنا ، وفي آفاق ثقافتِنا تليقُ بملامِح شخصية وفكرالشهيد.    كنتُ ومنذُ صِباي أتردَّد على بيت السيد الصدرلزيارتِه وسَماع أفصحَ وأعطرَ الكلام لغة وعلما . فكان يتحدّث بتواضع الأنبياء وفكر الأئمة من أهل البيت ، وكنا نحن الحضورنصغي اليه أبناء له ومُريدين . في ذلك البيت المتواضع جدا من بيوتات محلة العمارة في مدينة النجف الأشرف كان يسكن الشهيدُ مستأجرا البيت لا مالكا ، وعلى مسافةٍ قريبةٍ منهُ كانت الحسينية الشوشترية التي يأمُّ الناسَ  فيها لصلاة الجماعة . آخرُ يوم أرى فيه الشهيد كان هوالعاشر من الشهر السادس  لعام 1979 . ذهبتُ أنا وآخر من أبناء عمومتي الى بيته المكرّم بحلول الساعة الحادية عشرة والربع تقريبا وقبل دخولنِا الباب بخطوات لا تتجاوز العشرة صادفني السيد الشهيد الصدرالثاني وقد خرج لِتوِهِ من دار بن عمِّه وأستاذِه . كان  يحملُ في يمينِه كتابا ، محنيَ الرأس قليلا وعيناهُ شاخصتان على الطريق ، لا يبالي ولا يتردد من خوف عناصر أجهزة المخابرات والأمن والحزبيين المنتشرة في كل – الدربونه – والمحلة تقريبا . كانت في تلك الأيام تظاهرات الجماهير تتصاعد ، معلنة البيعة للأمام محمد باقر الصدر وهو يستقبلها ويبارك لها ويدعوها للعمل من أجل الأسلام والوطن . كذلك مجاميعنا الشبابية قبل يوم كانت في النجف تروم القيام بتظاهرة تنطلق من المسجد الهندي وحتى دار السيد ، لكن الظروف الأمنية الصعبة جدا وقلة عددِنا حالت دون قيامِنا بتلك التظاهرة ، فالتقينا وتفرقنا من المسجد . لذا قمتُ في اليوم الثاني بتلكَ الزيارة بدوافع الغباء وليس الشجاعة ، والعاطفة وليس الفهْم . هكذا كان الجوُ السائدُ عندَ المخلصين ، عملٌ بلا تنسيق ولا درايةٍ أو موضوعية يتناسب وحجم الأستبدادِ والمُستبدِّ اللذين يحكمان العراق . كان علىَّ في ذلك اليوم أن أعملَ شيئا آخرَ من شأنه يُصعّد صورة الرفض الجماهيري في الشارع العراقي لا أن أذهبَ حافي القدمين وأسلِّمَ نفسي الى عصاباتِ أمن صدام متطوعا عند باب السيد الصدر . دخلتُ الدارَ وأنا أفكرُ بمرارةِ الخروج منها بسلام ، لكن وَهْم الخوف ذاب وتلاشت حتى آثارُه في نفسي عندما وصلتُ بابَ تلكَ الغرفة الصغيرة لأطل بناظري على مَنْ تربَّعَ في المنتصف لواجِهَتِها وهو يتحدث بدِفىْ وهدوء وابتسامه ، يرفع كفَّهُ اليمنى أحيانا الى المقربه من صدرِه عندما يريد أن يبين ويوضح للجالسين مفهوما أو حُكما ، جامعا أصابعَها معا وحالَ ما تلاطف المِسبحةَ السوداء ذا الحبّاتِ الصغيرة ، فتأخذ كلَّ حبتين معا من الأعلى والى الأسفل . عِمامتُه السوداء على رأسِه وهو يرتدي لباسَه الديني ( الصايَه ) ذات اللون ( القهوتي - البُني ) الداكن  سلَّمت فردّ والجالسون السلامَ ، ونزلت جاثما على ركبتّيْ فأخذتُ يدَه الكريمة وقبَّلتُها بروح عاشق ثمل في عشقه. وهو يُرَدِّدُ عبارة ( حيّاكمُ الله ) . جلستُ في أول الصف من جهة شمالِه وكنتُ الأقرب الى زاوية الغرفة بينما السيد مسترسلا بحديثه . ما بين الجَمْع كانت عناصر الأمن المتخفية  تستمع الى حديث الأمام أو ردِّه على أسئلة الحضور . ولم يطل بنا المَقام حتى اقتربنا من موعد أذان الظهر لتتعطل كل حركة ما عدى حركة العبادة التي يُذكَرُ فيها أسمُ الله تعالى . إستأذن السيد ونهضَ من مكانِه لأداء فريضة الظهر في الحسينية الشوشترية وتفرَّق بعضُ الناس . خرجتُ من باب الدار ولَمَحَتْ عيناي رجلا يلبس( الدشداشه) جالسا أمام الدار، فنهض بوجهي وتبِعَني حتى صرتُ أنا ورفيقي في مُنحدَرآخرٍ من(الدربونه)  . مسك  بنا وطلب  منّا هوياتِنا ، وأمرَنا  أن نذهبَ معه الى السيارة (اللاندكروز) البيضاء المتوقفة في الشارع والى جانبها حفنة من البعثيين ورجال الأمن . أصْعَدونا فيها وتوجَّهوا بنا الى مديرية أمن النجف . لقد روّعونا وسلبوا منا عافيتنا لما رأينا كيف يتسلط الظالم المستبد على المظلوم المستضعف . على أية حال ، لم نخرج من السجن وويلاتهِ حتى إعدام وزير الصناعة والمعادن محمد عايش ووزير التخطيط عدنان الحمداني ورفاقهما من البعثيين بحجة أن لهم ولاء وتنسيق مع سورية . صدر في حينها قرار مجلس قيادة الثورة بأطلاق سراح المعتقلين السياسيين من الذين تتعلق قضاياهم بمحكمة الثورة أو ما زالوا رهن التحقيق ( ما كنت منتميا ولا انتميت الى حزب الدعوه وولائي الى الصدر بحكم الشرع وليس السياسه وانا أعتز بالدعوه والمخلصين لها وهذا الأعتزاز كلفني كل حياتي ) . فاطلاق سراحي كان سجنا آخر وليس الحرية كما نراها . في بداية عام 1980 سمعنا خبراعتقال السيد الصدر ونقلهُ مخفورا الى بغداد . في ذلك الظرف العصيب كانت أجهزة الأمن والمخابرات قد أتمّت كل الأستعدادات لمواجهة أية طارىء يسببه اعتقاله . لم تعد هناك مواجهة من الداخل مالم تتحرك وتبادر قوى المعارضة في الخارج بعمل مناسب، لكن هذه القوى كانت شبه خاوية ، لا تغث ولا تسمن سوى بعض الهرج من هنا والمرج من هناك ،  بصراخها وخطبها الرنّانة في المؤتمرات والندوات ،أوحلقات بيع الفلسفة والمنطلق والنحو والصَرْف . كان أبو جعفر في قبضة أعتى نظام مستبد يواجه مرارة الأعتقال ، وكان محبوه ومريدوه في الخارج يكتفون بتفسير الأحلام وأنه سيتحرر من السجن بناء على هذا الحلم الذي يبشر بالخير . في وقت مبرمَج لها أعلنت أجهزة الأمن الصدامية خبر يفيد بأعدام السيد وعيونُها تترقب ما يجري على الساحتين العراقيتين ، ساحة الداخل وساحة الخارج ، فما رأت عيونُهم شيئا يدعو للحذر بارتكاب جريمة قتله التي لم تتم بعد ، سوى أن أصواتا من أهل الفلسفة تستنكر جريمة القتل ، تسبقها آية من القرآن الحكيم ( ولا تحسبنَّ الذين قتلوا…… …….)   

سعدون شاكر كان في حينها وزيرا للداخلية ، وفاضل البرّاق كما أتذكر كان مديرا للأمن العام ، فهل يتخيل عاقل وبليد وأبله أن هذين المجرمَين تردَعُهما سورٌ من القرآن أو نصوص فلسفية ومنطقية ، أم تردَعُهما سبل أخرى كفيلة باطلاق سراح الأمام وسلامته ؟ يا تُرى ما هذه السبل ، وكيف يمكن التعامل بها لأستباق تحقيق الجريمة ؟ الأجابه على هذا السؤال – على سبيل المثال لا الحصر -  تكمن في حاجتنا الى أخذ الدروس لنتعلم أساليب العمل العسكري الغير تقليدية من نمور التايمل في سريلانكا ، والماويين في النيبال ، وعصابات كولمومبيا ، والبيرو ، ومافيا ميلانو ، وقساوة كفاح جيفارا في كوبا . ومن المؤكد أن الوسائلَ الناجحة والمطلوبة كانت متوفرة في تلك الفترة التي من شأنها ردع استبداد صدام  الذي لم يواجه ما يخاف منه ويحذر سوى العمل التقليدي المفضوح . مع هذه الروح وهذا الأستعداد كان المفروض على معارضة الخارج ( الأسلامية ) والمتعاطفه أن تتحرك في المحافل الدولية والعربية  والأقليمية والدينية والفكرية على أساس أن الصدرهو قمة الفكر الأسلامي المعاصر وأنه مدرسة لا يمكن تدميرها وبهذه السهولة وهذه الطريقة . فمثلا كان العمل الدبلوماسي والسياسي على الساحتين الباكستانية واللبنانية ، مع الجهد المتواصل في تلك المحافل كفيلا باطلاق سراح السيد الصدر . لكن أتباعَه الذين يتسمون بأخلاصهم له كما إتسم شهداءُ الطف بأخلاصهم  للأمام الحسين –ع - . هؤلاء المخلصون منهم أحياء ومنهم من سلك طريق الشهادة  قد وظفوا اخلاصَهم وسيلة للفتك بهم من قبل مؤسسة صدام القمعية . فالخطأ الكبيريتلخص بافتقارهم ممارسة العمل العسكري بمختلف الأساليب ، ما عدى الظهوربمظهرالدين والتحدي المُعلن . هناك من خذل الصدر ، وخذل أتباعَه ، وخذل كلَّ القضية العراقية ، وا أسفاه . الحوزة العلمية في قم المقدسة كان بأمكانِها عملَ الكثير من أجل الصدر كونها مؤسسة دينية علمائية مستقلة وأن السيد هو واحد من رموزها بدرجة مجتهد . كذلك الحوزات في العالمَين العربي والأسلامي كان دورُها غيرُ فاعل أو ليس لها دور على الأطلاق . ما كانَ للصَدرِ من ناصرٍ سوى أختِه بنت الهدى تدور في صحن جدها علي – ع -  كما دارت زينب في مجلس يزيد بن معاوية ، كذلك حفنه من أتباعه وتلاميذه الذين هم كما وصفناهم لا يقلوّن شأنا عن أنصار الأمام الحسين بأخلاصهم ، هؤلاء كان عملُهم أشبه بطفل يريد أن يواجه قطارا مسرعا في صدره . كان الشهيد الصدر ضحيّة الأستبداد ، وضحية أخطائنا نحن ، من علماء ومثقفين وكوادر . كان ابو جعفر في محنته يواجه الموت الزئام وكان البعض منتفخ الذات يسمع ولا يتحرك ، ولا بعمل جادٍّا ، ولا حتى برأي أو وجهةِ نظرٍ من شأنِها تصبُّ في خندق انقاذِه . مع العلم أنَّ هذا اللون من الأفاضل هم خارج العراق أحرارا بالوقوف في محاريبهم أو إطلاق الضراط عند خلوتهم . فالذين سكتوا عن صدام بارتكاب جريمته كثيرون ، والذين بكوا على الصدر بعد إستشهاده كانوا أكثر ، فيا عجبا من هكذا معادلة يخلقها النفاق السياسي . ما كان لأيران أية دور يُذكر من أجل انقاذ الصدر سوى الهرَج عبر وسائل اعلام وضعتها في خدمة العراقيين المنشقين على انفسهم ، والمستفيدين . فدور ايران كان اعلاميا خاطئا يستند الى أن اعتقال الصدر يعزز تلاحم الشعب العراقي للنهوض بوجه نظام صدام . كان صدام وبرزان وسعدون شاكر والبرّاق يراقبون الوضع في العراق وفي الخارج ولم يرَوا أن هناك ما يخيفهم ، أو مَن يتبرِّع  ببَولتِه ِليَصُبَّها وسطَ طريق مُرتكبي الجريمة . ( عفوا قد ينتفض فيلسوف صنديد ونحن نعيش في زمن الديمقراطية الجديدة ويقول نحن قدّمنا للقضية وفعلنا ما يجب فعله ، وقدمنا الشهداء … ) نحن لا نتحدث عن الخسائر التي خسرناها في مسيرة شريفة خالصة لله والوطن والشعب ، وهذه الخسائر هي من عامة الناس في الداخل ، نحن نتحدث عن أخطائِنا في عملِنا الذي كنا نسعى به الى تغيير النظام بما يجب أن يكون ، وأخطئنا في توظيف هذا العمل من أجل انقاذ السيد الصدر من مخالب صدام ، ونتحدث عن المحسوبين والمخلصين والمنتفخةِ ذواتِهم  ، الذين ما عرفوا كيف يضعون النقاط على الحروف بل أسائوا لها دون قصد لفساد على الأطلاق . وللتأريخ ، أن هؤلاء  المخلصين القليلين جدا كانت أخطائهم تتكرّر في ظروف قاهرة كانوا قد عاشوها بحبس الدوائر الأيرانية لنفوسِهم عندما كانوا يقيمون على أرض ايران كمعارضة تعمل على اطاحة نظام صدام المستبد في العراق . لقد تحرَّك هؤلاء المخلصون حال سماعهم خبر اعتقال الصدر ، فأعَدوّا العِدَّة واستعَدُّوا للذهاب مجاميعَ من مدن قم وطهران ومشهد وغيرها لتعزيز مواقع قوات بعض المعارضة المرابِطة على الحدود من جهة شمال العراق . فزاد عدد المقاتلين والذخيرة الحربية من رصاص وبنادق ، وزادت المؤونه من عدس وحمص وشاي وسكر وطحين ومعجون طماطة . كل هذه التعزيزات ِمن شأنها أن تساهم في تحرير السيد الصدر وأخته العلوية ( لكم الله يا مستضعفين – ما كان في يدكم حيله -  لقد استبدلتم الأحزمة الناسفة والعبوات بالحمص والمعجون ) . ليسَ من مصلحتِنا كعراقيين أن نعيش همومَ الأمس لنخلطهَا بهموم اليوم .  الصحيح هو أن نعرف انفسَنا ، ونفهم اخطائنا التي ارتكبناها حتى نظهرَ بنتائج تليق بدورِنا ومسؤوليتِنا في التصدي  لضرب الأرهاب البعثي – الوهابي ، ولضرب المنافقين الذين لا همَّ لهم سوى تعطيل حركة العراق باتجاه الأمام  ، ثم بناء ما تهدَّمَ ، واسترداد أو استبدال ما خسرناه ( العمل بالممكن ) . وقد نغسل االعارالذي يلاحقنا لما حَكمَ صدامُ التكريتي وعصاباتُه شعبَ العراق ، وقتلَ الصدر ، ذلك القلعة الشامخة بشرفهِ الرفيع وعلمِه الغزير وفكره الذي سبق علوم عصره . صدام الذي أغرق العراق بجرائمِه وجعله مقبرة للأحياء ، وسرق خيراتِ وطن كانت تحسدُه عليها الآفاق . لقد ضحّى إمامُنا السيد محمد باقر الصدر بنفسه الزكية وكانت رخيصة عليه مادام لله شأنها وللعراق والشعب ، وهكذا كانت أخته الطاهرة بنت الهدى والشهداء الأبرار من أتباعه . فعراق اليوم يريدُنا أن نتخلَّق جميعا بآداب الأنبياء ، موسى وعيسى ومحمد – ع – ، ونحترم كلَّ الدياناتِ الأخرى والقوميات والطوائف حتى تكون اللبنة الأولى في بناء حياةٍ أكثرَ استقرارا  ، واكثرَ أمنا وانفتاحا . 

فسلامٌ عليك سيدي أبا جعفر يومَ ولدتَ ويومَ اعتقِلتَ ويومَ خذلوكَ واستُشهدت ، وعلى اختك الطاهره سلامُ الله .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com