الذاكرة العراقية ..!

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktoob.com

قرأت يوما ما عن سيرة موجزة لحياة مناضل شيوعي عراقي، وقع بيد بهجة العطية، جلاد التحقيقات الجنائية أيام حكم نوري السعيد، ورغم ما عاناه هذا المناضل من تعذيب جسدي، وضغوط نفسية، مورست عليه، لم تفلح معه حتى بانتزاع اعتراف منه باسمه الحقيقي، وبينما هذا المناضل قابع في زنزانته، تعرف عليه أحد المستخدمين في هذه المؤسسة، وبعد تحيته لهذا المناضل عرض عليه أية خدمة يمكن أن يقدمها له، أجابه هذا المناضل شاكرا موقفه، مع الرجاء بعدم الإدلاء عنه بأية معلومة يعرفها حتى لو كان اسمه، وعده هذا المستخدم خيرا، وانصرف لتوه باتجاه أرشيف التحقيقات ليستخرج إضبارة هذا المناضل، فوجدها مليئة بمعلومات وتقارير مرفوعة عنه وعن نشاطاته السياسية المعارضة للسلطة الملكية، لو قدمت ضده كأدلة إدانة، لحكم عليه بالسجن، سنوات طويلة، فقرر أن يتلف كل ما كتب عن هذا المناضل، وُيبرأه من كل تهمة،، فألقى بإضبارته الشخصية في نهر دجلة، من خلال شباك غرفة الأرشيف المطل على النهر، وبعد أن تخلص من الإضبارة، وتأكد من أن مياه دجلة ابتلعتها، عاد إلى زنزانة المناضل ليخبره أن لا خطر عليه بعد الآن، وبإمكانه أن يعترف باسمه الحقيقي، فإضبارته الشخصية بقضها وقضيضها تقبع في قعر النهر، وبدلا من شكر هذا المناضل للمستخدم على صنيعه، قابله بوجوم وعدم ارتياح، وصفق يدا بأخرى قائلا \" ليش يا أخي فإنك قد ألقيت بكل تاريخي في النهر، والآن أصبحت، أنا، من غير تاريخ ولا ماضي ..\" هذا المناضل كان على حق، فتاريخه النضالي وذاكرته كلها في هذه الإضبارة، وها هي قد مسحت من التاريخ السياسي العراقي، وما عادت لتلك الشخصية من ذاكرة مكتوبة في أرشيفه أو أرشيف الدولة من وجود .

أغلب العراقيين الذين تعرضوا لملاحقة الشرطة لنضالهم السياسي، إن كان أيام الحكم الملكي ونوري السعيد، أم في باقي العهود القومية وحتى سقوط النظام الفاشي في العام 2003، كانت دورهم معرضة للتحري والتفتيش، وكل ما تجده العناصر الأمنية لهذه الأنظمة، من كتب ووثائق ومقتنيات شخصية لهذا المناضل أو المشتبه به، تتم مصادرتها باعتبارها دليلا جرميا، حتى وإن كانت قصة أدبية أو قصيدة غزلية أو رسالة غرامية، وحتى وإن كانت خاطرة عابرة مرت بخاطره فدونها، ولاتعاد تلك المواد المصادرة لصاحبها، إن ُحكم عليه أو ثبتت براءته، هذا الواقع حال دون إقدام الكثير من الناس في مجتمعنا العراقي، متعلمين ومثقفين ومهنيين أوغيرهم، وخصوصا العاملين في الحقل السياسي المعارضين للنظام، من كتابة مذكراتهم أو مشاهداتهم اليومية، بعكس من يعيش في مجتمعات آمنة ومستقرة، حيث لم نجد فقط الشخصيات السياسية والثقافية والمهنية وغيرهم من هواة الكتابة، يمارسون تسجيل مذكراتهم، أو ما يحدث ويدور في محيط مجتمعاتهم والعالم، بل حتى الأطفال منذ بداية وعيهم في المدرسة يمارسون الكتابة وكتابة المذكرات وتسجيل مشاهداتهم اليومية، الموثقة بالساعة واليوم، وهكذا تنمو وتكبر معهم ذاكرتهم الموثقة، يرجعون إليها عند تقدم السن بهم، أو عند الحاجة لتوثيق فترة ما مروا بها، لذا فالخطأ عند الكتابة عن فترة زمنية مروا بها يكون معدوما أو شبه معدوم .

الكثير من الكتاب والمثقفين عندنا، على مختلف اختصاصاتهم، والمناضلين على مختلف توجهاتهم السياسية والفكرية، كتبوا مذكراتهم، عن حياتهم وعن مجتمعاتهم، بعد أن تقدم العمر بهم، معتمدين على ما علق بالذاكرة، التي أتعبتها سنون النضال والمنافي، وجراء هذا الواقع فاتتهم الكثير من التفاصيل المهمة، خصوصا ما يخص النشأة والتاريخ والمكان وحتى الشخوص، وبين أيدينا الكثير من هذه الكتابات، أطلق عليها أصحابها تسميات تدلل على أنها مستلة من الذاكرة فقط، فجاء السرد للحوادث مشوشا وغير دقيق، وفيه الكثير من الخلط والإرباك، وليس هذا بقصد منهم، بل نتيجة لكر الجديدين المؤثر على ذاكرتهم، وللظروف الأمنية والسياسية القاسية التي عاشوها والتي مروا بها .

حال الذاكرة الشخصية، الفكرية والثقافية والسياسية، لكتابنا ومثقفينا، هي الأفضل بما لا يقاس مقارنة مع ما آل إليه حال الذاكرة الرسمية للمجتمع، والدولة العراقية، ومؤسساتها من مكتبات ودور بحث ومتاحف وغيرها من المؤسسات العلمية والفنية والأدبية، بعد سقوط النظام، فالذاكرة الشخصية قد أرهقها وأتعبها إرهاب الأنظمة والحكومات المتعاقبة، إلا أنها قاومت، لحد ما، الخراب والتدمير، أما الذاكرة الرسمية للتاريخ والواقع العراقي، فحالها مختلف كليا، فقد تعاونت على إتلافها ومسحها قوى متعددة، خارجية وداخلية، مختلفة الأغراض والمقاصد، إلا أنها جميعا قد حققت غرضا واحدا، هو تجريد الشعب العراقي من كل تاريخه الموثق، والموروث منذ سبعة آلاف عام، وحتى سقوط النظام الفاشي، على يد الاحتلال الأمريكي، ففي لحظة دخول هذه القوات المدن العراقية، وخصوصا العاصمة بغداد، انطلقت عناصر لمنظمات أجنبية من على الدبابات الأمريكية، كانت تحملهم جنبا إلى جنب جنودها المقاتلين، مدربة على النهب والحرق والتخريب، توجهت هذه العناصر، لتنفيذ أهدافها وفق ما تحمل من مخططات أقدمت على تنفيذها رفقة قوات الاحتلال، البعض منها هدفه المتاحف التي تحوي تاريخ العراق بل تاريخ البشرية الأولى التي صنعت الحرف والقانون، لتنهب ما خف حمله وغلا ثمنه، وتتلف ما استعصى عليهم نقله أو إخفاءه، وبعضها الآخر هدفه حرق أرشيف دوائر الدولة . في الساعات الأولى من دخول قوات الاحتلال، ُنفذت جرائم سرقة وحرق ثأرية، فمثلما أقدمت على فعله قوات الاحتلال الفاشي الصدامي في الكويت عندما احتلته، في العام 1990، من نهب لممتلكات الدولة وأرشيفها، والسطو على مكتباتها وما حوت من نفائس كتبها ومخطوطاتها الثمينة، وحرق لدوائرها وما تحويه من سجلات ووثائق، حدث شئ مماثل في دوائر الدولة العراقية ومؤسساتها، كما ساهمت في جريمة محو الذاكرة العراقية، منظمات حزب البعث الفاشي، التي أطلق عنانها رأس النظام، بندائه ل \" الحواسم \" من أعضائه ومن المجرمين الذين أطلق سراحهم قبل سقوط نظامه، وحدد لهم أهدافهم ساعة دخول القوات الأمريكية بغداد، بأن تنهب وتحرق وتخرب كل ما تطاله أيديهم، فهؤلاء، \" الحواسم \" أتموا ما لم تقدر على تنفيذه قوات الاحتلال ومنظمات الجريمة المنظمة الدولية، للتغطية على جرائم ارتكبها النظام الفاشي بحق الشعب العراقي، ومحكمة الجنايات التي تحاكم صدام وزمرته بجريمة الدجيل، خير دليل، حيث تعذر على هيئة الإدعاء العام، ليس فقط استحضار إضبارة الدعوة التي حوكم بموجبها ضحايا جريمة الدجيل، وإنما لم تتوفر أية وثيقة من وثائق محكمة الثورة التي حاكمت صوريا آلاف العراقيين، نتيجة للحرق الذي شمل أرشيف كل دوائر الدولة ومؤسساتها، وهذا لم يكن بعيدا عن مساعدة قوات الاحتلال التي حمت هؤلاء المجرمين . قوات الاحتلال نفسها ساهمت في نهب وإتلاف الذاكرة الرسمية العراقية، وهي نفسها، قوات الاحتلال، اعترفت بأنها سرقت مئات الأطنان من وثائق الدولة العراقية ونقلتها إلى الولايات المتحدة، إلا أننا لم نجد أيا من حكامنا من طالب باسترداد هذه الوثائق، رغم اعتراف الولايات المتحدة رسميا باستيلائها على هذه الوثائق، فالاحتلال لم يتمثل على أرض الواقع العراقي، بأهداف اقتصادية وعسكرية، وإنما بالسيطرة على أرشيف الدولة العراقية، بما يحويه هذا الأرشيف من بحوث علمية وعسكرية واقتصادية وفنية وغيرها من مجالات، حصيلة نتاج أكثر من ثمانين عام من عمر الدولة العراقية .

ما تعرض له العراق من إتلاف لتاريخه وذاكرته، لا يمكن تعويضه، إلا أن ما ُنهب وُسرق من جهات دولية ومنظمات معلومة، لم نر أية جهود حكومية مبذولة لاسترداد بعض من هذه الذاكرة المستباحة، مما يضع المسؤولية، ليس على عاتق الحكومة ومؤسساتها الثقافية والأمنية فقط، بل وعلى عاتق منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، للعمل على المطالبة باسترداد مانهبته قوات الاحتلال والإدارة الأمريكية والمتعاونين معها . المواطنون العراقيون، بمختلف اهتماماتهم، الذين أدمت محاجرهم الجرائم المرتكبة بحق العراق وتاريخه، مطالبون بالعمل والمساعدة على إعادة بناء ذاكرة العراق ..!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com