ازمة في ثقافة الوطن

الدكتور لميس كاظم

lamiskadhum@hotmail.com

لازل ساستنا منهمكين في حل مشكلة تسمية مرشح رئيس الوزراء، إذ مضت اربعة أشهر وهم يراوحون في حل اول مشكلة. ولم ينتهوا بعد من حل هذه المشكلة حتى اطلت جبهة التوافق برأيها للتنافس على مرشح رئاسة الجمهورية مبينة اولوية عربية الرئيس. فقبل ان يرسم في الافق بوادر لحل مشكلة مرشح رئيس الوزراء، أنفجرت مشكلة رئيس الجمهورية، والتي هي اصعب من سابقتها، إذ ستعيد ترتيب الاصطفافات داخل الكتل الفائزة بشكل مختلف تماما عن السابق. فهذة المعضلة القومية ستلهب نار النقاش بداخل الكتل المتناطحة مع كتلة الائتلاف. وكما نعلم أن مشكلة رئيس الوزراء خلقت حالة من البلبلة داخل كتلة الائتلاف نفسها وظهرت المعارضة غير المعلنة وبعض التصريحات من داخل الكتلة نفسها  والتي طالبت د. الجعفري بالتنحي عن ترشيحه للمنصب الجديد. وقد لاحت بالافق اسماء بديلة من داخل الائتلاف كإنقاذ للموقف. ورغم كل ذلك إلا أن الائتلاف حافظ على تماسكه الداخلي لحد اليوم.

 أما بروز مشكلة رئيس الجمهورية واشتراط ان يكون عربيا فهذا سيحدث تصدع في تحالف الكتل الفائزة، الموازية، للائتلاف والتي جمعت قواها لحجب الثقة في قبة مجلس النواب في حالة أصرار كتلة الأئتلاف على مرشحها. فهذا التصريح سيستفيد منه الأئتلاف اولا للمساومة على قضية رئاسة الوزراء برئاسة الجمهورية وبالتالي ستكون ورقة رابحة بيده ضد تلك الكتل وسيفسح لها المجال لشق صفوفهم واعادة التحالفات السابقة لكن بمواصفات جديدة. وهذا مما قد يدخلنا في دوامة طويلة ليست اقل خطرا من دوامة الطائفية، إذ ستمضي عربة الوطن في المفوضات على عجلة الطائقية الموازية لعجلة القومية.

 فمن الواضح للجميع أن ساستنا يتناقشون وفق ثقافتهم السلطوية والتي هي متقاطعة مع ثقافة القانون. فعند الرجوع الى الدستور الدائم يكون الحل واضح وصريح، إذ يلزم الكتل الاكثر أصواتا لتسمية رئيس الوزراء وفي حالة عدم منح مرشحها الثقة يتوجب تسمية مرشح اخر. كما أننا لا نرى في الدستور اية اشتراطات طائفية او قومية او سياسية في توزيع المناصب الرئاسية الثلاث. فالدستور يفضي ان يكون الرئيس عراقيا وممثل من القوى الفائزة بغض النظر عن انتماءه الطائفي او القومي أو السياسي، لكن ساستنا الوطنيين أستهواهم هذا الفاروس، الطائفي، اللاوطني وتمرضوا بهذه المحاصصات الطائفية منذ أيام مجلس الحكم واستمر الفايروس ينهش في جسم الحكومتين السابقتين ويعيش على خلافاتهم ومما أمرض الجميع وجعلهم مسجونين بقوانينه حتى بعد أقرار الدستور.

 أن ثقافة السلطة تبرر القمع والتغييب والذبح والتفجير والتطهير العرقي والفكري والسياسي بينما تدعو ثقافة الوطن الى حل كل المشاكل العالقة بطرق قانونية بعيدة عن العنف المبطن. فلو طبقت ثقافة الدستور لحلت كل المعضلات الرئاسية خلال ايام. لكن ساستنا لازلوا مبهورين بثقافة السلطة والاستفراد بالكراسي الرئاسية ولا يهمهم الدمار الذي لحق بالبلد والشعب. بل أن ما يجري يزيدهم اصرار على التمسك بكراسيهم الرئاسية. والانكى من هذا، انهم يرفضون هذا التاخير وهذه المماطلة في تشكيل الحكومة ويستنكرون ويشجبون تلك الاعمال البربرية شانهم شان الغرباء والبعيدين عن السلطة. لكن لم نسمع أن احد منهم تحمل المسؤولية في كل ما يجري في العراق من مجازر ومذابح وتهديم متعمد لثقافة الوطن وكأنهم لازالوا خارج سدة الحكم أو في المعارضة. ترى اليست من واجبات الحكومة الحفاظ على امن المواطن وحماية الوطن؟ وإن اخفقت هذه الحكومة في سياستها فالدستور ملزم بمحاسبتها ام ان ساستنا يتمتعون بحقوق رئاسية محصنة ومعفين من الواجبات الوطنية.

الحقيقة تؤكد بأنهم يمارسون ثقافة السلطة بينما يخطبون ويفاوضون بثقافة الوطن. وهذا التناقض هو حتمي نيتجة افتقارهم للممارسات الدستورية طيلة عقود من عملهم السياسي وبالتالي جعلهم يزاوجون بين ثقافة السلطة والوطن.

 أن الشعوب البرلمانية الاوربية تطورت نتيجة إلغاءها لثقافة السلطة القمعية واعتمادها على ثفاقة الوطن الدستورية، التي اذابت في بودقتها كل الثقافات القومية والاثنية وظهرت ثقافة وطنية واحدة تطبق الحقوق والواجبات الدستورية على الجميع. واصحبت سلطة الدستور تطول كل من يقصر بواجباته مهما كان منصبه السيادي والرئاسي، وخير مثال على ذلك،  هو ما جرى في الاسابيع المنصرمة في السويد، إذ أجبرت وزير الخارجية السويدي على الاستقالة لانها تأخرت في معالجة مشكلة المفقودين السويديين في حادثة تسونامي، دون الخوف من انها تنتمي لحزب الاكثرية او قد تؤثر الاستقالة سلبا على الحملة الانتخابية لحزبها، لكن الواجب الوطني حتم عليها تحمل المسؤولية. بالوقت الذي يجري في العراق، كل يوم تسونامي وجرمه الوحشي اكبر من جرم تسانامي الطبيعة، لكن وزاءنا باقون في الحكم بل يطالبون  الشعب بضبط النفس، ولا يحملون انفسهم ادنى مسؤولية ولن تهتز كراسيهم الوطنية.

وهنا يكمن القصور في فهم ثقافة الوطن المبنية على الواجبات والحقوق والتي هي اسمى من كل الثقافات الحزبية والطائفية والقومية. فمن يتمسك بكرسي الرئاسة عليه ان يتحمل المسؤولية الوطنية اولا وان يعترف بعجزة في الكوارث والمجازر ثانيا والاهم ان يتملك الجرأة للتنحي عن موقعه في حالة الاخفاق. وهو ليس أنتقاص من شخصيته اطلاقا، انما الاعتراف بعجزه عن تأدية الواجب الوطني وبالنتيجة سيعلم الجميع أن المسؤولية والواجبات الوطنية هي ليست مسألة مناصب وفرص ذهبية وأنما هي مسؤوليات محكومة بالمحاسبة القانونية.

 قد يكون ترشيح جبهة التوافق الرئاسي مقبول من الناحية الدستورية فالكتل السياسية الكبيرة من حقها ان ترشح لكل المناصب الرئاسية الثلاثة، بدون قيد او شرط لكن لا توجد مادة في الدستور تحدد انتماء الرئيس، بل تشترط أن يكون عراقيا فقط. هذه المعضلة ستدخل الكتل السياسية في معممعة اكثر هرجا من سابقتها وستخلق بلبلة قومية داخل الكتل السياسية نفسها مما يستوجب بروز الأنتماء القومي الى حلبة الصراع الرئاسي من جديد. 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تطرح هذه المقترحات والاشتراطات بالتدريج وفق اجندة محددة وفي أزمنة محددة وضمن مراحل متقدمة من المفاوضات؟ ولمَ لم تطرح كل هذه القضايا في برامج الكتل الانتخابية ليتسنى للناخب أن يعرف مدى تزمت هذا الحزب أو تلك الكتلة. فمعلوم للقاصي والداني ان كل كتلة أنتخابية تمتلك استراتيجية كاملة وخطط تكتيكية في حالة فوزها في الأنتخابات وتمتلك الالية الكاملة، قبل دخولها الأنتخابات، لسبل التحالف على المقاعد الرئاسية والحقائب الوزارية. لكن ما نراه أن الكتل تفجر بالوناتها السياسية بعد كل مرحلة من المفاوضات. ترى لمصحلة من يجري هذا ؟ ومن يقف وراء بقاء العراق منتهك الأمن والسيادة والحقوق؟

ولماذا تاخر أو يتم توقيت تفجير مشكلة سيادية قبيل الانتهاء من حل مشكلة رئاسية؟ وقد لا نتفاجئ مستقبلا أن نسمع اعتراضات على مناصب رئاسة مجلس الامة بعد ان يتوصل الساسة الى حل وسطي لمشكلة رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. كل هذه البالونات السياسية قد فجرت ونحن لازلنا  لم نتقرب من مشكلة الحقائب الوزارية السيادية التي استمرت في الانتخابات السابقة لاكثر من ثلاثة اشهر. وقد لا نتفاجأ من بعض الكتل ان تبين ايضا انها احق بوزارة الداخلية أو الخارجية او النفط دون غيرها مع توضيح الاسباب التي تعتبرها واقعية. وبالتالي فأن عجلة المشاكل ومفرقعات الازمات ستبقى دائرة ويبقى الوطن غارقا بدماء ابناءه وحرمته منتهكة وجثث ابناءه تحترق في المساجد والمخابز والشوارع والاسواق.

 أن نكوص الثقافة الوطنية تجعل من الفائز أن يخلط بين مفهوم الواجبات الدستورية والسلطة الشرعية الأنتخابية، فالشعب لم ينتخب أشخاصا وانما انتخب كتل واحزاب سياسية ذات برامج وطنية شامله يحققها اشخاصا من ذوي الكفاءات ويحاسبهم الشعب على اخفاقهم وبالتالي لا يحق لأي مرشح ان يحول هذا الفوز الى قوة شرعية شخصية، تعيق مسيرة العملية الديمقراطية المزمع تنفيذها ويبقى متمسكا بالمثل الدارج لو العب لو اخربط الملعب. فلو كان الفائز محصن بثقافة دستورية قوية لحّلَ كل هذه الاشكالات العالقة ضمن الشرعية الدستورية دون اللجوء الى المفاوضات والمساومات السرية لكن الجميع يتحصن بشعارات ومفاهيم تقف في ضفة من النهر بينما ثقافة الوطن تقف في الضفة المقابلة لهم.

 ان ما يجري في العراق يعكس حقيقة واضحة أن عقول ساسة العراق لازالت مسجونة بولع الهيمنة على كراسي الرئاسة مهما كانت العواقب وخيمة وهذا يعكس حقيقة أنهم في الواقع بعيدين عن ثقافة الوطن التي تلزمهم ان يتجاوزوا كل خلافاتهم والأحتكام الى الشرعية الدستورية. أننا نشهد انتهاكا صارخا لثقافة الوطن باساليب ديمقراطية. والغريب أن كل الساسة يهتفون بعبارات وطنية براقة في خطبهم لكنهم بواقع الحال لا يقتربون من الواجبات الوطنية الملقاة على عاتقهم بل يهربون الى الامام لتحميل الاخرين، خارج السلطة، مسؤولية ما يحري. لكننا نعرف بان ثقافة الوطن تمنح القادة حقوق وطنية وتلزمهم بواجبات ينفذوها شانهم شأن اي مواطن بسيط ولو طبقت هذه العلاقة لازدهر الوطن وعم السلام وعاش الجميع بتأخي ومحبة. لكن ما يجري حاليا، هو ان ثقافة الوطن باتت موجودة على الأوراق البيضاء وصفحات الجرائد ومواقع الانترنت وخطابات القادة أما في الواقع العملي فهناك تصفية حسابات طائفية وقومية وسياسية وفكرية ينفذها فرق وميليشات لا تمتلك أي مفهوم للوطنية وبالتالي فأن المواطن والوطن هما من يدفعان الثمن.

 ان ما يجري بعيد كل البعد عن ثقافة الوطن ومفهوم الوطنية. وانما سيؤسس عراقنا الجديد على مفهوم جديد لثقافة الوطن لكن برؤية ضيقة، مقيتة، تفرق ابناء الشعب وتتفق مع منطلقات العولمة الجديد.

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com