نعم: إنهم مختلون عقلياً

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

تميزت علاقتي بالإعلام الرسمي العربي عموماً، بحالة "متطورة" من الشك، والتوجس، والارتياب، نظراً لاحتوائه على كثير من الأكاذيب، والأحابيل، والأباطيل، والتضليل. إلا أنني كنت أمساً على موعد غير مرتب لكسر تلك القاعدة الذهبية التي لم تخب يوماً ما. ولعل التفسير الرسمي المصري لما جرى أمس من حوادث مؤسفة هي واحدة من المرات القليلة، والنادرة التي ينطق فيها الإعلام العربي الرسمي بالحقيقة. فقد جاء في معرض "تنصل" النظام من مسؤولية الأحداث الدامية، التي جرت في المدينة المتوسطية، وذهب ضحيتها قتيل وسبعة عشر جريحاً، بأنها من فعل أحد المختلين عقلياً. وفي الحقيقة، فالاختلال العقلي، والتشوه السيكولوجي الذي نما بسبب عقود من الضخ الأسود، والحشو الأجوف هو الذي حوّل الإنسان السوي إلى قنبلة بشرية تنفجر بمجرد ارتطامها حتى بنسائم الهواء العليل. ولقد تحولت جماعات بشرية لا حصر لها إلى جيوش من المختلين عقليا تهذي ليلاً نهاراً، سراً، وعلانية، وتنضح بثقافة الكراهية والاستعداء، والبغضاء، وتحولت المواطنة الحقة إلى مرتبة دنيا في قياس إنسانية الإنسان، وسلم المعايير.
وكم كانت كلمات المعلق الرسمي قريبة جداً من الواقع، وعاكسة له حين أشارت لواحد من تلك القطعان الهائجة بأنه مختل عقلياً، بالرغم من عقم ولا جدوى المحاولة الفاشلة لإخفاء مسؤولية أكبر، وهي الرعاية الرسمية والحكومية لكثير من المختلين عقلياً، وتركهم يسرحون ويمرحون في الشوارع، والمنابر، والشاشات الوطنية والفضائيات. وإن كان التوصيف الأفضل، والرسم الأدق يقتضي تسميته بالمبتور عقليا، والموتور نفسياً.ً
نعم إنهم مختلون عقلياً. فكل من فقد حسه الإنساني، واستبدله بغريزة عدائية إجرامية جامحة ومدمرة تجاه أخيه في المواطنة والإنسانية، ولا يرى في الآخر المختلف فكرياً، وإيديولوجياً، ودينياً، سوى مشروع موت، وتصفية جسدية، هو مختل عقلياً. ومن الواجب الاعتراف بأن قسما كبيراً، مما يُقال، ويحشى به عقول الكبار، والصغار هو بحاجة لمراجعة، عقلانية ومتأنية، نظراً لما يولده من تشويه نفسي واعتلال عقلي في ذات المتلقي، قبل أن يوجه غضبه وسخطه نحو الآخر، ويكون له بذلك قوة ثنائية التدمير( الذات-الأنا، والآخر- الموضوع). كما أنه من الإنصاف القول أن بعض المفاهيم التي ارتبطت بالدين عموماً، والسائدة في الشارع، لا تفلح إلا في إنتاج أجيال تستعدي الآخر وتعتبره هدفاً مشروعاً، وأن هناك بعضا من المختلين عقلياً يهلل ويفرح ويؤيد هذه الأفعال الآثمة السوداء.
ثمّ، أوليس من الاختلال العقلي أن نعتبر كل من يخالفنا الرأي، والرؤية هو ناصبي، وخارجي، ورافضي، وضلالي، ومارق زنديق، وننصب من أنفسنا سادة وأوصياء وقضاة عليه؟ أوليس من يُطرب ويهلل، ويروج لاستباحة دماء الآخرين، وأيا كانت مبرراته العقائدية، والإيديولوجية، ومرجعياته الفكرية هو أكثر من مجرد مختل عقلياً ويجب أن يُحجر عليه، ويُعاد تأهيله بشرياً وحضارياً؟ وهل من يعتبر نفسه فوق النقد، والناس جميعاً هو إنسان سوي؟
ولقد استطاعت أيضاً، السياسة الخبيثة لأنظمة الاستبداد تحويل شتى أنواع الصراعات الطبقية، والاقتصادية، والتناقضات الاجتماعية الأخرى باتجاه محور غيبي، يرد كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى فضاء ميتافيزيقي يُبرأ بموجبه المسؤولين الحقيقيين عن حالة البؤس والتردي العام الذي وصلت إليها المجتمعات. وأن مجمل أسباب هذا الوضع المأساوي والإنساني المزري البائس الخطير هو بسبب الاختلاف الديني، وأن الحل والخلاص، والخروج من هذا المأزق الحضاري، والواقع الدامي المريض هو التخلص من الآخر الكافر الذي هو أس البلاء، وسبب الكوارث والتجويع والإفقار، وأن المعركة الحقيقية التي يجب أن يخوضها البؤساء والمساكين المستضعفين هي مع الزنادقة والكفار الملاعين، وليس مع اللصوص، والطغاة المستبدين، وهذا هو الخلل العقلي بعينه، وهو لوحده، الانحراف، والشذوذ الإنساني الكبير، ونسي هؤلاء أن في كل الأديان والمجتمعات ودعاء، وطيبين، ومؤمنين. وإن هذا الدور المريب هو الذي جعل الملايين في وضع عقلي حرج ومرير، بحيث أصبح مجرد حفاظ الإنسان على قسط بسيط من ملكاته العقلية، هو بحد ذاته مكسب، وانتصار، وإنجاز عريض. وإذا كان حجم هذا الدمار الهائل بفعل معتل وحيد، فكيف سيكون عليه الحال لو انطلق الجيش العرمرم الجرّار من المختلين ومشوهي العقول في الميدان الكبير .
إن إعادة نظر شاملة، وكلية لمجمل هذه الثقافة والسلوك هي الكفيلة بألا تكون الكنائس وحدها عرضة للحرق والاعتداء والتدمير، بل ستكون المجتمعات كلها في أمان، وبعيدة جداً عن احتمالية الانفجار، والانقراض، والتدمير.