الحرية والإبداع

نضال نعيسة

sami3x2000@yahoo.com

ما إن يلمع نجم من هذه المجتمعات المنكوبة في فضاء الغرب، وفي أي مجال، حتى ينبري الإعلام بكل جوارحه لتسليط الضوء عليه، ويحتل أحيانا العناوين الرئيسية في نشرات الأخبار. ويتم التعامل مع الأمر كحدث استثنائي، وغريب. وكأن التفوق، والنجاح والإبداع، ليس من طبع هؤلاء الناس الذين ذهبوا في إغفاءة حضارية لقرون طويلة، وأنه حكر على قوم، و جماعة، و عرق خاص من الناس؟ وأحدث ما تمخض في هذه السلسلة هو تعيين السيدة شارلين الدّر(مسلمة من أصل لبناني)، من قبل حاكمة ميشيغن جنيفر غرانهولم، قاضية في محكمة الدائرة الثالثة لمقاطعة وين. وسيتم حفل التنصيب في الثاني عشر من الشهر الجاري في ثانوية فوردسون، وستكون السيدة الدّر بهذا، المسلمة الأولى التي تعتلي القضاء في المقاطعة، والأولى على مستوى ولاية ميشيغن. وكان الخبر سيمر مرور سيارة شبح مصفحة، لأحد الثوار المناضلين من أمام مواطن "مشحر وغلبان مسكين"، لولا أن هذه المرأة هي من أصل عربي ومسلم، وهنا هو السبق الإعلامي وخرق القاعدة، والاستثناء الكبير، الذي لفت نظر الصحافة والإعلام. وكأن الصورة النمطية التي يجب أن تبقى في البال عن هذا الإنسان، هي الجوع والفقر والمطاردة والرعب والخوف والخنوع وقلة الحيلة وتواضع الأداء. ويثير هذا الموضوع تساؤلاً هاماً وهو هل هناك ثمة علاقة ما، بين الإنسان والتفوق والإبداع، وهجره لوطنه الأصلي، حيث لا قيمة أبداً للموهبة، والإبداع، والذكاء؟ وفي الحقيقة يمكن للمرء هنا أن يستعرض عشرات الأسماء التي حلقت في فضاء الشهرة، والمال، ولو بقيت في أوطانها الأصلية، لكانت ربما قد بقيت نكرات هامشية لن يسمع بها سوى الدائنين، والمخبرين، وأقرب الجيران.
ويحاول البعض بمكر ودهاء أحياناً، التركيز على الأمر، وكأنه حدث فريد لم يكن ليحدث سوى لأن هذا المبدع أو ذاك هو من هذا اللون، أو ذاك العرق المقدس الفريد. ولكن ثمة أسئلة أخرى ايضاً، يمكن أن نواجهها في سياق مقاربتنا للموضوع من مثل هل هذا الإنجاز الإنساني استثنائي وغريب محرم على من يقطن هذه الديار ليثير كل هذه الجلبة والضجيج في محيط ساكن وخامد على الدوام؟ ولِمَ العربي والمسلم بالذات؟ ولماذا لم يثر تعيين قاضية هندوسية، أو مسيحية، أو يهودية، أو بوذية نفس القدر من الحمية، وعقيرة هذا الإعلام، ويسلط عليه الأضواء؟ ولِمَ وضعت المرأة المسلمة في قالب الإنسانة المستسلمة لقدرها، والمهمّشة في حياتها؟ وانحصرت مهامها الحياتية في تعطيل ملكاتها العقلية من جهة، وتفعيل وظائفها البيولوجية فقط من جهة أخرى، ووضعها في قالب موضوعي لا تخرج منه من المهد إلى اللحد؟ وهل مجرد الاقتراب من المسلمات والتابوهات المتوراثة المقدسة والمتعلقة مثلا بولاية المرأة يعتبر مادة دسمة إعلامياً؟ هل هذه نظرة إنسانية عادلة للإنسان في هذه المنطقة، حيث إن التركيبة الطبقية المتوارثة التقليدية لا تعترف إلا بسليلي الحسب والنسب، وبأبناء الذوات والعائلات، واللصوص وأصحاب الثروات، واحتكرت لنفسها القرار، ومعه كل وسائل إنتاج المعرفة، والاقتصاد؟.
ولقد تصدر وبكل أسف إنساننا "العربي والمسلم" وبجدارة، ودون منافس، صدارة قوائم الفقر، وضحايا الجهل، والأمية، والسجن والتعذيب والانخفاضات الحادة في شتى المجالات، ولقد حاولت تلك المنظومات الفكرية والسياسية الحاكمة، وعلى مدى قرون خلت، أن تبقيه في دائرة الرعب، والخوف، والمطاردة، والإقصاء، والإرهاب التي تقتل فيه كل موهبة وإبداع، وتبقيه منشغلا في دوافعه الغريزية، والفطرية البسيطة التي تقوم بها الكائنات الحية الأخرى بشكل تلقائي. ومن هنا فبلوغ أي إنسان عادي، من غير السلالات الحاكمة، مرتبة اجتماعية، أو علمية، أو اقتصادية مرموقة هو ظاهرة بشرية خارقة، ومعجزة إنسانية بارزة يجب أن تتوقف عندها وسائل الإعلام ملياً، وتغطيها بمزيج من الدهشة، والفضول، والاستغراب. فلا تفلح الظروف الإنسانية البائسة والمزرية عادة في استيلاد سوى المشوهين فكرياً، والمعاقين عقلياً، والمتخلفين حضارياً.
إن خبراً كهذا وبرغم حمولته الزائدة من إيجابية مفرطة، إلا أنه لا يكاد يخلو من سوداوية ما في جانب ما، وهو إدانة صريحة بشكل ما للمجتمعات التي لم تُخرج المرأة من حيز المطبخ، واعتبرتها مجرد وسيلة للمتعة، وماكينة لتفريخ الأطفال. فما المانع الأخلاقي والقانوني أصلاً في أن تكون المرأة قاضية ووزيرة، ورئيسة للوزراء، وحتى رئيسة للجمهورية؟
وهنا تبرز مسألة غاية في الأهمية تتجلى بأن المشكلة ليست في الإنسان مطلقاً، بل بظروفه وصروف الدهر، والفضاء السياسي والاقتصادي الذي يعيش فيه. فحين يوضع الإنسان، أي إنسان، عربياً، مسلماً، أو "أعجمياً"، وثنياً، مؤمناً مخلصاً، أم ملحداً لا دينياً، في ظروف إنسانية وبشرية صحية وطبيعية، وينال حقه من التعليم، والاحترام، والتقدير، وحرية التفكير والتعبير، فإن المحصلة الأولى هي النجاح والتفوق، وبلوغ العلا، وتسجيل الصفحات البيضاء في جبهة التاريخ، والعكس بالضبط هو الصحيح. والسؤال الأهم ماذا كان مصير السيدة الدر لو بقيت في الشرط الموضوعي الذي ندركه جميعاً؟
إن هذا الإنجاز للسيدة الدّر، وفي غير وطنها الأم، وفي هذا المركز المرموق، هُوَ نَتاج لواقع صحي، وشرط موضوعي مناسب، ودحض واضح لكل الأقاويل والمزاعم والنظرة الدونية للمرأة، ويعتبر، بآن، تسفيها لكل من يحاول ازدراء المرأة والنظر إليها وفق معايير شرقية بالية لم تفلح سوى في تعليبها برزم من التقييد. ولا فرق في الحقيقة بين بشر وبشر آخرين، سوى في الظروف والأقدار السياسية التي تولد عظماء وأسوياء فالحين، أو تخلف بشراً،و أقزاماً معتوهين ومهزومين.
أعطوا شعوبكم جزءاً يسيراً من حقوقهم الإنسانية البسيطة، وعاملوهم كبشر وآدميين لتروا أن بلوغ أي منهم الزهرة والمريخ سيكون خبراً أقل من عادي في عيون الآخرين، أما هذه السياسات الاستبدادية والدموية المتوحشة فلن تفرخ سوى أشباه الآدميين المفلسين الخائفين، وبقايا نتف من حطام البشر المشوهين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com