من المعلوم أن التشبث والوجوم في المكان، والتشدد العقائدي والإيديولوجي المدعوم بقبضة أمنية عاتية، متجلياً بارتجالية وآنية مفرطة في معالجة الحدث، هو عامل خطر وتهديد وعدم استقرار للجميع بمن فيهم أي نظام يعتقد أن التمترس الأبدي وراء هذه الأطر التقليدية يمكن أن تحميه من الزوال. ومن هنا فقد برزت الحاجة الملحة للتغيير كضرورة مرحلية ضاغطة بعد سلسلة من المآزق المحلية، والإقليمية، والخارجية، والإخفاقات السياسية المتتالية بفعل عوامل الترهل المتعددة والجمود المعهود. واستشرت حالة العجز الكلي عن التكيف الذاتي مع المتغيرات الدائمة، والتقلبات الجيوبوليتيكية الكبرى، وبالتالي كان هناك عدم قدرة واضحة على اتخاذ ردود أفعال مناسبة، بأدوات وقوالب جديدة فاعلة ومؤثرة تواكب الضرورات الكثيرة المستجدة وتتصدى لها. فقد نمت الحاجة، وأكثر من أي يوم مضى، وبشكل مطرد وملح، لا ستحداث مناخ جديد قادر على التعامل مع تلك المستجدات، وهذا ما يمكن أن نطلق عليها اصطلاحابعملية التغيير التي تخلق شروطاً جديدة وبديلة تعوض حالة الشلل وانعدام الحراك تلك. وقد شكلت إفرازات هذه الحالة المستعصية ضعفاً بيناً وتهديداً واضحاً للسيادة الوطنية، تجلّى بالانصياع التام والكامل غير المشروط، للإملاءات الخارجية المفروضة، والتي لم تخل البتة من نوايا غير طيبة خلقت جرحاً نازفاً في ضمير كل مخلص وطني شريف.
هذا وتعكس الرغبة في التغيير حالة عامة من عدم الرضا عن الشرط الموضوعي الموجود. ويعتبر التغيير في المحصلة النهائية، حالة حتمية وطبيعية بفعل تراكم عوامل اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، يصبح فيها الوضع القائم عبئاً على ذاته، ومعوقاً لحركته، وضاراً بشرطه الموضوعي نفسه. ويهدف التغيير أساساً الانتقال من حالة الجمود الراهنة إلى حالة جديدة قادرة أن تتكيف ديناميكياً مع متطلبات الواقع المتنامية. وقد يكون التغيير بطيئاً سلمياً، وقد يكون جذرياً سريعاً، إلا أنه في جميع حالاته يجب أن يخلق واقعا مغايرا عما سلف، ليلبي احتياجات واقع ضاغط. فإن غاب التغيير بشكله المنطقي المدروس فقد تنزلق الأمور إلى حالات من الانفجار والفوضى وقد يكون من الصعب غالباً التحكم بها. والتغيير عملية نوعية موضوعية، لا عملية ذاتية وشخصية. إذ لا يهدف التغيير بمطلق الأحوال إلى إحلال أشخاص محل أشخاص، أو أحزاب مكان أحزاب، بل إلى تغيير في النهج والعقلية والسلوك، والأسلوب، والأداء. ويهدف إلى خلق آليات عمل جديدة، وشروط موضوعية تحل محل تلك القديمة، وتستبدلها شرط قدرتها على التكيف مع الواقع الجديد.
فقد ولدت ظروف الديمومة السلطوية الطويلة والتي اصطلح على تسميتها بالديكتاتورية عقلية عصابية، وِسْواسِيّة، سيكوباتية ترى في زقزقة العصافير، وابتسامات الأطفال، وزمامير السيارات تهديداً لوجودها وبقاءها بعد أن فقدت شرعيتها كلياً، وانتفت الحاجة المجتمعية لوجودها. وهذا ما أدى بدوره لظهور حالة من التوجس الدائم من أية عملية تجديد، أو تغيير قد تفضي إلى تهديد بقائها وزوالها نهائيا في الأخير. ولذا كان هنا الإتيان برد فعل أمني شرس يخمد أي تطلع نحو أي شكل التغيير هو الحل الوحيد. لا بل قد يبلغ الأمر في بعض المراحل اللاحقة لهواجس العصابية السلطوية الواضحة المتولدة من استعداء مستفحل للآخر المجتمعي العودة لمتحف النظام القديم، واستحضار بعض المستحاثات الأمنية والسياسية المركونة فيه والنفخ فيها من جديد، كونها كانت ذات يوم أحد عوامل الأمن والاستدامة، لتلعب نفس الدور القديم كي تخلق ذلك الشعور الزائف والمؤقت بالاطمئنان، والتعويل عليها فقط في ضمان البقاء لأجل غير مسمى، واعتبارها غاية وطنية في ذاتها. وإن كانت قد حققت استقراراً سابقاً، وفي شرط محلي، وإقليمي، ودولي مؤات، فليس من المؤكد البتة أن تنجح تماماً، في هذا الوضع الجديد. وتعتبر هذه الردة الإصلاحية طلاقاً بائناً مع فكرة التغيير ليعود هذا بدوره، ويولد عوامل جديدة، تراكم احتقاناً لا يستطيع أحد أن يتحكم مستقبلاً بلحظة انفجاره الكبير.
وتفرض ضغوطات الوضع الراهن ، وتخلف البنى التقليدية وعجزها عن مواكبة التطورات الهائلة عملية التغيير، ومراوحة هذه البنى الإيديولوجية والعقائدية في مكانها نظراً لانعدام وجود بدائل وخيارات سياسية، واقتصادية، واجتماعية أخرى. إذ لا يعقل أن يتم التعامل مع شروط القرن الواحد والعشرين الموضوعية بأدوات قروسطية تآكلت وثلمت وعلاها الصدأ والتكلس ولم تعد قادرة على العمل مطلقاً. وبدون أدنى شك هناك قوى تتطلع للتغيير وتؤيده، وهناك قوى وأشخاص تعارضه، وتقاومه مادام يؤمن شرطها الموضوعي الشخصي، فيما تحاول قوى التغيير الجديدة دخول ساحة العمل الوطني، وإثبات وجودها، والمساهمة في القرار السياسي والبناء الوطني، والتعبير عن ذاتها المغيّبة والمهمّشة من خلال التعبير المنشود. فلقد أجهض الاستبداد مشروع التنمية والنهوض الوطني برمته، ووضعه على الرف وفي مرتبة ثانية من حيث الأولوية والأهمية. وصار همّ الأنظمة بالدرجة الأولى ضمان ديمومتها ولو على حساب هذا المشروع الحيوي الضامن لبقاء الجميع. وإن التغيير البنّاء والمُثمر هو الذي يسمح بإحياء هذا الموضوع وعودته للحياة من جديد وفق الأسس السليمة والعقلانية المطلوبة.
وإحدى أهم آليات التغيير هو الدعوة لإحداث ذلك النوع من التوافق الوطني والوفاق والاتفاق على مبدأ التغيير السلمي، والإجماع على هدف التغيير الإيجابي الذي يعود منفعة على الجميع بعوامل ذاتية محضة، أي غير المرتبط بالآخر الخارجي مطلقاً، كمخرج من حالة الاحتقان والمراوحة النمطية في المكان التي ما فتئت تجتر خطاباً نمطياً مملاً ماضوياً عفا عليه الزمان. فلإجماع الوطني العام على ضرورة التغيير هي المقدمة الأولى للمشروع العتيد. والوطن هو المحور الوحيد الذي يجب أن تلتف حوله قوى التغيير، والسقف الذي ينضوي تحته الجميع، وتجاوز التناقضات الآنية الفرعية التي تعيق الوصول للهدف الكبير.
ومن آليات التغيير المعروفة نشر الوعي، واالمعطيات لمعرفية في صفوف الشرائح الاجتماعية المعنية بالتغيير، وتعريفها بوضعها الآني والمستقبلي، وذلك تمهيداً لاستقطابها جميعاً في معسكر التغيير.ومحاولة إعادة كل تلك القوى والفعاليات السياسية، والاجتماعية التي تعرضت للإقصاء والتهميش من خلال الممارسة المستبدة الطويلة التي فصمت عرى المجتمع ووضعت قواه الحية في ثلاجات أمنية فرضت الرعب، والخوف بدل الاعتماد على المبادرات الذاتية الخلاقة والمبدعة والمواهب الفردية. إن إطلاق، وإفساح المجال للمبادرات الذاتية التي تصب في خدمة المصلحة الاجتماعية والوطنية العليا عبر تعميم القرار الوطني العام، أي عدم مصادرته وجعله عاماً، وغير مختص بفرد أو جهة أو حزب وتيار، من خلال برلمان منتخب مثلا تكون فيه سلطة اتخاذ ومراقبة تنفيذ القوانين العامة بيديه، هي واحدة من أهم آليات التغيير لما لهذا العامل من تأثير في إحداث التغيير. كما أن طرح قضية التغيير على أوسع نطاق ممكن ونشر ما يمكن تسميته بثقافة التغيير يمكن أن ساعد في إحداث ذاك الخلل والاهتزاز في الحالة العامة الراكدة بفعل عوامل القهر والقمع والاستبداد. ثم إن التأسيس لحياة سياسية صحية وإحياء المجتمع المدني بأطيافه الواسعة واستعادة زمام المبادرة للقوى المجتمعية الحية قادر على إحداث ذاك التغيير المطلوب.
لقد مضى وانقضى نهائيا زمن التعتيم والحصار واحتكار الكلمة وآلية التواصل والتوصيل، الذي ساهم إلى حد كبير في ديمومة النظام القديم، وعلى قوى التغيير أن تستثمر هذا المناخ الداعم الجديد، وأن تستفيد من فسحة انفتاح الآفاق اللامحدودة كقوة ضغط وعامل مساعد بالتأكيد، أيضا في إحداث التغيير. لقد كانت ملكية وسائل الإعلام سابقا عاملا من عوامل بقاء أنظمة الاستبداد، إلا أنها اليوم وبحق ملك مشاع للجميع للتعبير عن مكنوناتها لقد سقطت الجدران والأسوار ولم تعد ملكا لهذا أو ذاك يجود بما تسمح به نفسه الأمارة بالاستبداد والاستعباد، لقد سقط نهائيا عامل الخوف ولم يعد له وجود ويجب توظيفه بذكاء واستثماره في تحقيق التغيير. وما الحملات الأمنية المتعاقبة الواسعة إلا دليل على اتساع رقعة التحدي، وانهيار الحاجز النفسي، ومحاولة عودة الغعاليات المختلفة لساحة القرار والعمل الوطني بعد عقود من التهجير والتغييب.
وللبحث صلة