طفح الكيل بالسيد أبي مازن في معرض تعليقه على العملية الانتحارية الأخيرة التي تبنتها منظمة الجهاد الإسلامي، فما كان منه سوى وصفها بالعملية الحقيرة. وأيا تكن الدوافع السياسية أو الأخلاقية وراء هذا الموقف، والتوصيف "العباسي" لهذه العملية، وبعيدا عن أية مواقف عقائدية جامدة وردات أفعال، فقد أصاب السيد عباس كبد الحقيقة، بوصفه للقتل بحد ذاته بالعمل الحقير. وما أجملها، حين يشهد شاهد من أهلها، ويا ليته في كل مرة تحصل عمليات قتل، ومن أي طرف كان، أن يتم التصدي له، وإدانته، ووصفه بالأوصاف اللائقة به.
فمن الحقارة فعلاً أن يتم الاحتيال على، والتلاعب بـ، واستغلال، وغسل أدمغة الأطفال الصغار، ليصبحوا قنابل بشرية، معبأة بغريزة الحقد والكراهية والانتقام، تتشظى في الشوارع، وتراق دماؤهم الزكية على الطرقات، وتخطف حياتهم بلمح الأبصار. أو أن يفاجئ الموت امرأة في الشارع العام، خرجت تتبضع سعياً لإشباع أفواه جائعة تنتظرها بفارغ الصبر والاشتياق. أو أن يتطاير رب أسرة، لا ناقة له ولا جمل، في عنان السماء، ليخلف من بعده أيتاماً فقدوا المعيل، والبسمة، وأي أمل في الحياة، وأن تئد أحزمة الموت الناسفة كل آمال وأحلام الناس في حياة يسودها الأمن، والطمأنينة والسلام.
فالقتل لا يبرر القتل. والإجرام، لا يبرر الإجرام، مطلقاً. وهناك دائم محاكم وعدل وقضاء، وإن كان نسبيا ومحدودا في المجال الدولي، ولكن لا بد أن يأخذ العدل مجراه في النهاية ومهما طال الزمان. والقتل يندرج في نطاق الجناية، والإجرام، والانحراف السلوكي الخطير الذي تجب مقاومته، ومهما تكن الدوافع، والأسباب، والإيديولوجيات التي تقف وراءه. وإذا كان البعض قتلة، فهذا لا يعني أن يصبح الجميع قتلة ومجرمين البتة، وأن تصبح لغة الموت هي الوحيدة للتخاطب بين الشعوب والناس. فهذه الروح التي وهبتها السماء للإنسان ليست من حق، ولا من ملكية لا الجهاد، ولا حماس، ولا القاعدة، ولا المارينز، ولا جيش الدفاع الغاشم المحتل، ولا فروع القمع والاستخبارات، أوحكومات الاستبداد، ليتصرف كل منهم بها على هواه، ويذهب بها أنى يشاء. ونحن بحاجة دائماً، وأبداً، لرفع الصوت عالياً، ضد جميع أنواع القتل، والإبادة والتصفيات، وقصف الأرواح البريئة، ومهما تكن تبريراتها السياسية، والعقائدية، واللاهوتية، والسلطوية الخرقاء. فالقتل عمل شرير حقير وجبان، ولا يأتي به سوى الحقراء، المجردين من الإنسانية، والأخلاق. وهو نوع من الانحراف واجب العلاج. والحقراء، والمجرمون وحدهم هم الذين يستهدفون الأرواح البريئة التي لا ناقة ولا جمل لها في بعض الصراعات الدموية. ولم تفلح عقائد الموت، أبداً، في بناء حضارات، أوطان حصينة تسودها المحبة، ويرفرف فوقها الأمن والوئام.
العنف لا يولد سوى العنف، والرغبة الجامحة في الثأر والانتقام من جميع الأطراف، وعلى العكس فالتسامح والتحلي بروح العفو وتجاوز الحساسيات والضغائن والأحقاد له أبعد الأثر في نفوس الناس وتغيير الكثير من السياسات وإزالة المتاريس والعقبات. وكثير من الحركات الرائدة، والأفكار الخالدة، والفلسفات السائدة اجناحت العالم دون إراقة قطرة واحدة من الدماء، وجذبت قلوب الناس وأفئدتها من خلال بريق الحب والتسامح وروح الوئام. وفي التاريخ القريب والبعيد هناك الكثير من الأمثلة عن انتصار الحركات السلمية التي سادت بفعل تشكيل قوة ضغط عام وحققت ما تريد من أهداف. ولعل في داعية السلام الهندي المهاتما غاندي، أروع مثال على مدى ما تحدثه قوة الاحتجاج، والاعتصام السلمي من تأثير وتغيير عام. ولا ننسى أيضاً ما حققته الحركات المناهضة للعنصرية في أمريكا الشمالية في تعبئة الرأي العام، والقيام بالعصيان السلمي والمدني الذي انتزع في النهاية حقوق المساواة الكاملة للسود، وطوت به، أمريكا صفحة التمييز العنصري في بداية ستينات القرن الماضي. كما كان لتبلور موقف عام وشامل من الاستبداد الشيوعي المتمترس وراء أطر إيديولوجية، الأثر الكبير في انهيار الإمبراطورية الحمراء، وأفول نجمها نهائياً في تسعينات القرن الماضي.
وهناك خط فاصل بسيط وواضح، بين المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال وبين القتل والإجرام، والمقاومة حق وواجب مشروع على الدوام. ولكن من الحقارة أن تستغل الصراعات، والقضايا العادلة من قبل البعض لإظهار دمويتهم، وجرائمهم واستبدادهم، وتجارتهم، واستباحتهم لأرواح الناس وجنوحهم نحو الإجرام تحت شتى المبررات.
على الآدمي العاقل المتحضر العقلاني أن يُري دائماً الجانب الإنساني المضيء في ذاته، ويظهر تسامحه، وترفعه، ومدنيته، وما لديه من قيم عظيمة، ومبادئ سامية، وأخلاق رفيعة، لا أن يخرج في كل مرة، عن طوره، ويظهر كل ما لديه من همجية ودموية، وبربرية، وإجرام، وانحطاط.
وللعلم، لا تنحصر الحقارة فقط في بعض المنظمات، والأفراد، والعصابات الخارجة عن القانون بل تتعداها لحكومات، وأنظمة، ودول، تدّعي الحضارة والشرعية، والتمثيل الدولي لكنها ترعى الإجرام، وتنظم القتل، وترعى الإرهاب الأعمى. والحقراء الحقيقيون، أخيراً، هم الذين تسلّطوا على حياة الناس، ونصّبوا من أنفسهم أوصياء، وحراس على حياة البشر والناس، يتصرفوا بها كيفما اتفق وحسب ما يرضي أذواقهم، ونفوسهم الشريرة.
الحقراء موجودون دائماً وفي كل مكان، وزمان، وتحت شتى البراقع، والأقنعة، والأسماء ولن تهنأ البشرية مطلقاً، أو تعرف السعادة، إلا بعد أن تعري، وتفضح، وتتخلص من جميع القتلة الحقراء