|
البغدادية ( صاية و صرماية ) تتعلّق بالحالة المركبّة للطفيليين الجدد . لكلّ شريحة اجتماعية أدب و فكر و مدرسة خاصة بها , وقد لا يكون هذا الفكر مسطّراً او مكتوباً او مؤرّخاً له و قد تكون مدرسته الفكرية التي ينتهجها غير مؤدلجة او مقننة , اذ تكون ممارسات لشريحه اجتماعية معينة محصورة في زمان و مكان معيّن, او قد تمتد إلى أزمنة لاحقة ترث ما سبقها من الأسلاف . و ضمن تلك الشرائح شريحة الطفيليين , والذي كان الطفيلي أشعب أحد روّادها البارزين في التأريخ العربي . و للطفيليين في المصطلحات البغدادية تسميات عدّة : منها ( اللكّامه ) اللقّامة و تعني الذين يبحثون عن اللقمة من اجل سد جوعهم . و منها النهّاشه , كناية عن الذين ينهشون ما بحوزة الآخرين . ومنها الهبّارة وهم أرقى من ( اللكامة و النهاشة ) لانّهم يعرفون من اين تؤكل الكتف , فهم يبحثون عن الهبرة , و الهبرة كناية عن قطعة اللحم الصافية الكبيرة . ومنها ( العظـّامة ) و تعني أن صاحبها كالكلب ( اجلّ الله القارئين و السامعين ) فهم كما الكلب النابح , فترمى له عظمة لتلهيه و تشغله عن نباحه . و كذلك مصطلح ( الكلاّشة ) و تعني انهم يبحثون عن غنيمة في كل شيء بدون أي ثمن يدفعونه . كلّ هذه المصطلحات قد تخبوا أو تندثر ثمّ تستحدث مصطلحات جديدة تبعاً لظروف تلك المنطقة و لحوادث معينة تظهر فيها فتؤدّي الى ظهورها كما حدث مؤخّراً مصطلح ( الحواسم ) نسبة الى آخر معركة ( مكاونة ) اعتبرها الرئيس المخلوع صدام على انها معركة حاسمة , ستكون نتيجتها محسومة لصالحه كما اوهم نفسه بذلك فاسماها بمعركة الحواسم , ثم كانت النتيجة أن تحوّل أبطالها من واجبهم القتالي المفترض أن يكونوا فيه مدافعين عن الوطن إلى واجب تخريبي من ضمن فصوله السلب و النهب لممتلكات الدولة و المواطنين . إلى أن اصبح كل شيء مسلوب أو منهوب أو مسروق يسمّى بتسمية مال ( حواسم ) . و الطفيليّون لا يحتاجون إلى رأسمال في عملهم سوى بعض الأكاذيب و الحيل و الادعاءات التي تستعطف و تخدع الآخرين . و يوجد عندنا مثل مأثور يتداوله أصحاب المهن و الحرفيين و الكسبة والتجار في سوق الشورجة التجاري في بغداد يقول هذا المثل: ثلاثة أصحاب مهن لا يحتاجون في مهنهم ( لا إلى صاية و لا إلى صرماية ) وهم :
و لكن قبل كلّ شيء احب أن اعرّف القارئ الكريم إلى ماهية الصاية , ثمّ ماهية الصرماية ؟ الصاية : لم أجد لها تعريف لفضي دال عليها , سوى التعريف الاصطلاحي , حيث إنها عبارة تطلق على القفطان ( الجبّه ) المصنوعة من قماش ( الفاصونة ) و هو قماش مقلّم مخطط طوليا , وهي ( الصاية ) نفس ( الزبون ) القفطان او الجبّة التي تلبس بالجنوب , ألا ان قماش الزبون عبارة عن قماش سادة أو مقلّم بأقلام هادئة غير صارخة و عادة ما يلبس عليه ( جاكيت ) سترة من نفس القماش ليشكّلا معاً طقماً متكاملاً غالباً ما يعتمر لابسه عقالاً أو جرّاويّة او كشيدة على رأسه . امّا الصاية كما أسلفت فتكون من قماش الفاصونة المخطط طولياً باللونين الأبيض و الأسود ويكون قماشها ناعم الملمس لامعاً و برّاقاً . و كلاهما ( الصاية و الزبون ) غير الجبّة التي يلبسها علماء الدين و طلبة العلوم الدينية , إذ تعتمر عليها ( الجبّة ) العمامة السوداء للسيد من آل الرسول , والعمامة البيضاء للعوام من الناس . و تستعمل كلمة صاية تعبيراً عن الهيبة و الوقار و الوجاهة و السطوة الاجتماعية في الحياة التراثية البغدادية , وبالتالي فهي تعبّر عن النخوة و المروءة والنجدة , ويرتجي من يطلب حـّلاً لمشكلته من صاحب مروءة ونخوة قائلاً له : ( بصاية الله او صايتك حل لي هالمشكله ) . أو تتوجّه النساء البغداديّات بدعائهم الشعبي متضرّعات إلى الله قائلات ( بصاية الله أو صاية باب الحوائج فرّج عني ) و يقصدن بباب الحوائج ألامام موسى بن جعفر ع , أو يقلن بصاية الله أو صاية العباس ابو راس الحار , أو بصاية الشيخ عبد القادر الكيلاني , أو بصاية أهل بيت الرحمة . وكل ذلك يقصد به الجاه ( أي بجاه العباس او الكيلاني أو الحبيب المصطفى ع ) . كان ذلك تعريف الصاية . أمّا تعريف الصرماية فحسب القاموس اللغوي التركي turkce sozlugu فكلمة صرماية sermaye تعني رأس المال , وكذلك وصف لي صديق ضليع باللغة الفارسية ان كلمة صرماية في اللغة الفارسية هي ايضاً تعني ( رأس المال ) . و من اللطيف ان السوريين يسمون الحذاء بـ ( صرماية ) , فحدث ان هاجر عراقي الى سوريا واستأجر دكاناً في سوق الحميدية التجاري في الشام وكان رأسماله يتجاوز المائة الف دولار, فلما كان اول يوم لافتتاح محله ( دكانه ) جاءه الجيران في السوق يباركون له بالافتتاح ولما سؤل عن امكاناته المادية قال لهم :ان صرمايته مائة الف دولار , فما كان من احدهم الاّ و صرخ متعجباً قائلاً : العمى اذا كانت صرمايتك وحدها تساوي مائة الف دينار فكم تملك من المال ؟ من كل ذلك يتضح لدينا إن كلمة صاية و صرماية تعني الجاه و المال . و توصف لمن يمتلك الجاه و المال . و لنرجع إلى مثلنا في الشورجة الذي يقول : ثلاثة لا يحتاجون الى صاية و صرماية في مهنتهم وهم : المجادي و البوّاكين و الموامنه لاقول: ظهرت عندنا في العقدين ألاخيرين من القرن العشرين في صفوف العراقيين في الداخل او الخارج شريحة من الطفيليين الجدد مركّبة من الثلاثة الذين لا صاية ولا صرماية لهم ,أي من المجادي و البواكين و الموامنه , اذ اجتمعت فيهم المهن الثلاث في مهنة واحدة و بتنظيم وايديولوجية براغماتية فائقة التصوّر , طاغية على حالة تردي الأوضاع ألا أنها تتمظهر بمظهر أجوف لاصحاب الصوايا أو الصايات ( جمع صايه ) بما تعنيه كلمة صاية من هيبة و وقار و سلطة و سطوة اجتماعية , و تحاول هذه الشرائح من خلال اجتماعها على الباطل و تنظيمها الصارم الظالم أن تمتلك أكبر ( الصرمايات ) لتعوض ما تشعر به من خواء روحي ونقص ايماني و اجتماعي لتثأر من المجتمع الذي كان قد نبذها و احتقرها و كرهها , لا لسبب انهم شريحة تفتقر الى الثقافة او المال , بل بقدر كره المجتمع العراقي الطيب السريرة للعادات البراغماتية الهابطة في التسوّل و السرقة و الاتجار بالدين و الوطنية الزائفة . و ألآن عزيزي القارئ الكريم : أولاً : احب أن اهنئ نفسي و شعبنا العراقي الصابر المظلوم على انفراج ازمة تسمية مرشحه لرئآسة الحكومة القادمة , وعلى رأس المهنئين ( بفتح النون ) السيد ابو احمد الجعفري الذي يذكّرني موقفه الايثاري الشهم بموقف الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم و مقولته التي قتلتنا ( عفا الله عما سلف ) إذ جلبت علينا تلك المقولة التي لم تكن في محلها الويلات و المحن طيلة أربعة عقود من القهر و الحروب و المقابر الجماعية و الحصار و المجاعة , لانّ الذي خلف عبد الكريم قاسم ليس كمن خلف السيد الجعفري , فالحاج أبو إسراء المالكي الذي خلف السيد الجعفري نأمل منه أن يكون خير خلف لخير سلف , وان تعددت الأدوار فالهدف واحد بأذن الله داعياً الله العلي القدير بالدعاء الشعبي التي تدعوه امهاتنا في العراق قائلاً : ( بصاية الله و صاية محمد واهل بيته انشاء الله نشوف رحيل قوات الاحتلال و زوال آثار هذا الاحتلال سريعاً باذن الله تعالى ) . ثانياً : لكي اتابع الجزء القادم من البغدادية هذه صاية و صرماية ببغدادية اخرى قادمة تحت عنوان ( كوّر اشما صار ) أستكمالاً لهذه الحلقة انوّه الى أنّي سارسل كتاباتي هذه كالمعتاد الى كل الصفحات الالكترونية و الورقية التي تنشر لي ما عدا صفحة الرسالة الالكترونية التي احترمها و احترم القائمين عليها و التابعة للمركز الثقافي العراقي في مدينة دوردرخت الهولندية و اجنبهم الإحراج الذي سببته لهم بنشر حلقات بغدادياتي , و ذلك لان المعتدين جبنوا أن يردوا عليّ بالفكر و بالكلمة فاستعملوا سوء أدبهم ضد أصحاب صحيفة الرسالة الالكترونية, وهذا هو ديدن الذين لا صاية ولا صرماية لهم . ودمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |