الإبادة الجماعية - العراق نموذجاً

صلاح برواري / كاتب وصحافي كردي عراقي/دمشق

 berwari57@hotmail.com

 الإبادة الجماعية، أو إبادة العنصر (جينوسايد – Genocide)، مصطلح ابتدعه (رافايل لامكين) للتعبير عن التدمير المتعمَّد للعنصر، كلياً أو جزئياً، بدوافع التعصب العنصري أو الديني أو الاستعماري. وفي عام 1948 تبنت الأمم المتحدة التعريف التالي للإبادة الجماعية : «محاولة القضاء كلياً أو جزئياً، على جماعات قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بسبب هويتها هذه». وأصبحت الإبادة الجماعية، أو إبادة العنصر، جريمة دُوَلية يعاقب عليها القانون الدُوَلي، بموجب معاهدة الأمم المتحدة (اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقَبة عليها) التي تم التوقيع عليها في شهر كانون الأول 1948، ودخلت حيّز التطبيق في عام 1951، ووقعها العراق في عام 1959. وتتضمن هذه الجريمة قتل أفراد جماعة أثنية معينة، وتشريدهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والاعتداء عليهم جسدياً أو معنوياً، وإجبارهم على إتباع طريقة معيشة تؤدي إلى انقراضهم كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تمنع توالدهم وتكاثرهم واستمرار جنسهم، وخطف أطفالهم بشكل جماعي لإذابة شخصيتهم الأثنية.

ولو أخذنا بالمقاييس المذكورة أعلاه، لوجدناها تنطبق، تماماً، على كل من إقليم كردستان العراق في الشمال، ومنطقة الأهوار في الجنوب، إبان حكم نظام صدام حسين الدكتاتوري المخلوع؛ فكلتاهما تعرضتا لعمليات إبادة النوع والزرع، وتغيير الطابع الجغرافي والديموغرافي فيهما.

ففي منطقة (الأهوار) عمدت السلطات العراقية إلى القضاء على مقومات المعيشة والحياة الطبيعية، عبر تجفيف الأهوار والمستنقعات، والقضاء، من ثمَّ، على الثروتين السمكية والحيوانية، مصدر الغذاء الرئيس لسكان المنطقة، كذلك حرق الغطاء النباتي للمنطقة، والمتمثل بالقصب، والذي يعدّ مأوى لعشرات الأنواع من الطيور، التي يعتمد عليها سكان المنطقة كمصدر آخر للغذاء.

 وهكذا؛ لم يترك النظام العراقي السابق من خيار أمام هؤلاء المنكوبين، سوى ترك منطقة سكناهم الأزلية، والتوجه – هائمين على وجوههم- إلى المدن والقصبات القريبة، منطلقين في ذلك من دافع غريزة البقاء.

أما بالنسبة لعمليات القتل والإعدام هناك، فكانت قائمة على قدم وساق. ولا أجد هنالك أبلغ من شهادة مراسل صحيفة (الأوبزيرفر) البريطانية، الذي ذكر قائلاً: «إنّ جلاوزة النظام العراقي أسروا أحد ثوار الأهوار، ولإشاعة الرعب بين سكان المنطقة، لجؤوا إلى ربطه إلى سيخ حديد، وشيّهِ حياً على النار!».

أما في كردستان العراق؛ فبدت الصورة أجلى وأوضح، حيث وضع نظام (البعث) العراقي خطة عسكرية منهجية لإفراغ الريف الكردستاني من جميع سكانه، مدنيين ومقاتلين على حد سواء، في محاولة للقضاء على جذور ومقوّمات المجتمع الكردستاني. ومن هذا المنطلق، أعطى صدام حسين صلاحيات واسعة، وغير محدودة، لابن عمه ووزير دفاعه علي حسن المجيد، للشروع بتنفيذ الإبادة الجماعية للنوع والزرع في كردستان العراق، والتي انطلقت أولى حملاتها في العام 1978 تحت اسم "الأنفال"، حيث كانت مدة كل حملة ستة أشهر. والأنفال تعني الغنائم أو الأسلاب، مستعيراً هذا الاسم من عنوان ثامن سورة من سُور القرآن الكريم، والتي تتحدث عن انتصار المسلمين بقيادة النبي محمد (ص) على المشركين، في موقعة (بدر) في عام 624م، والتي استبيحت فيها أرواح وأموال المشركين. وهذه إشارة واضحة الدلالة من صدام حسين إلى اعتبار الكرد من الكفار والمشركين.

وكعملية تمهيدية لعمليات الأنفال هذه، كانت الحكومة العراقية قد شرعت في تدمير آلاف القرى الكردية الحدودية، منذ العام 1978، وتدميرها تدميراً كاملاً بالقصف الجوي والمدفعي، والنسف بالديناميت، وردم ينابيع المياه بالكونكريت المسلح، وتكليف آلاف الجنود بقطع أشجار الفاكهة المتنوعة والغزيرة، والإجهاز على البقية الباقية من الغابات والأحراش والمزارع، عبر إتباع سياسة "الأرض المحروقة"، وكذلك قيام طائرات الهليكوبتر العسكرية برش المزروعات بالمواد الكيماوية الحارقة.

أما سكان هذه القرى والقصبات الكردية والآشورية، التي بلغ عددها أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة (4500)؛ فقد حُشروا في مجمعات سكنية هزيلة، بنتها الحكومة على عجل في أطراف المدن الكردستانية، وسمّتها "مدن النصر" أو "القرى العصرية"، والتي هي في حقيقتها معسكرات اعتقال ليس إلا. وبلغ عدد المهجَّرين من سكان هذه القرى والبلدات، في المراحل الأولية، أكثر من (750،000) سبعمئة وخمسين ألف شخص. وفي برقية أرسلتها السفارة الأميركية في بغداد إلى حكومتها، بتاريخ 19 نيسان 1988، تم تقدير عدد الكرد الذين أرغموا على الانتقال إلى "مدن النصر" بنحو مليون ونصف المليون شخص. وأظهرت الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية الأميركية، أثناء مرورها فوق الأراضي العراقية، حجم الدمار والخراب الحاصلين في الريف الكردي. وأطلقت بعض الجهات الإعلامية الغربية على هذه العمليات تسمية (الإبادة الجماعية الثقافية)، والتي تعني اقتلاع الحياة الريفية التي تشكل عصب الحياة للمجتمع الكردي.

وفي خطوة تصعيدية لاحقة لعمليات الإبادة الجماعية هذه، بدأت الحكومة العراقية باستخدام السلاح الكيماوي الفتاك، والمحرم دُولياً؛ حيث استخدمته ولأول مرة في 15 و16/4/1987 في مناطق شيخ وسان وباليسان، وشمل ذلك العديد من القرى والمرتفعات. وفي هذه العملية أبيد سكان قرية (شيخ وسان) بالكامل، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وحتى الحيوانات الداجنة والبرية أبيدت أيضاً.

وتوالى استخدام السلاح الكيماوي على نحو تدريجي، ولكن منهجي وشديد الفعالية. وضمن هذا السياق العملياتي تم في 23 شباط 1988 قصف مقر قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني (بقيادة جلال طالباني)، في وادي (جافتي) بالسلاح الكيماوي.

وتوِّجت عمليات الإبادة الجماعية هذه، بمجزرة (حلبجة) الرهيبة، التي هزت الأوساط الإعلامية والسياسية العالمية؛ حيث تم قصف هذه المدينة الكردية الوديعة بغازات الخردل والسيانيد والسارين، مما أسفر عن مقتل أكثر من خمسة آلاف رجل وامرأة وطفل، وسقوط أكثر من ضعف هذا العدد ما بين مصاب ومشوَّه.

قمين بالإشارة أنَّ النظام العراقي السابق قد وثق جرائمه هذه بمستندات تحريرية، وأشرطة تسجيل وفيديو، ظناً منه أن هذه ستبقى في حوزته بشكل دائم، ولن تطولها الأيدي. ولكن، وخلال انتفاضة آذار (مارس) 1991، استولى أبناء إقليم كردستان العراق على ثمانية عشر طناً من وثائق المخابرات العراقية، والتي كانت تتضمن كميات هائلة من المعلومات والأدلة العيانية المباشرة على استخدام السلاح الكيماوي، سواء في حلبجة أم في مناطق عديدة أخرى من كردستان.

وفي 25 آب (أغسطس) وحتى 9 أيلول (سبتمبر) 1988، شنَّ النظام العراقي آخر حملاته الكيماوية على الكرد، وختم عمليات الأنفال تلك بالإجهاز على البقية الباقية من الريف الكردستاني وضواحي المدن، وبدأ سلسلة من عمليات الإعدام الجماعي والاعتقال العشوائي الكيفي. وقتل في هذه العمليات آلاف الأشخاص، واعتبر أكثر من مئة واثنين وثمانين ألف كردي وآشوري في عداد المفقودين. وكاتب هذه السطور أيضاً فقد في هذه العمليات سبعة عشر من أبناء عمومته؛ حيث اعتقل هؤلاء في يوم 28/8/1988، وأعدم 9 أشخاص منهم رمياً بالرصاص، واحترقت جثثهم بفعل اضطرام النار في العشب اليابس الغزير في منطقة الإعدام، ثم دُفنوا مع غيرهم في مقابر جماعية. أما الثمانية الآخرون؛ فقد اقتيدوا إلى مناطق في وسط العراق، بعد تعريضهم لأنواع التعذيب الوحشي، ثم قتلوا بعد تجربة السلاح البايولوجي (الجرثومي) عليهم، ودُفنوا مع عشرات الآلاف غيرهم في مقابر جماعية، لم يتم كشفها بعد.

ومن المضحك المبكي الإشارة إلى أن الجلاد علي حسن المجيد قد امتعض كثيراً، أثناء مفاوضات الوفد الكردي مع السلطة العراقية في ربيع 1991، حين سُئل عن مصير (182000) مفقود من أبناء إقليم كردستان العراق، فصرخ قائلاً: «ما هذه المبالغة؟ من أين أتيتم بهذا الرقم؟؛ فالرقم الحقيقي لم يتجاوز حدود المئة ألف شخص"!. ومن ضمن الوثائق التي سقطت في حوزة الكرد، إبان انتفاضة آذار 1991، ثمة شريط تسجيل (كاسيت) بصوت علي حسن المجيد، يخاطب فيه مجموعة من جلاوزته، مبرراً استخدام الغازات السامة ضد الكرد قائلاً: «مَن سيعترض على ذلك؟ المجتمع الدُوَلي؟ فليذهب المجتمع الدولي وكل من يهتم بما يقوله هذا المجتمع إلى الجحيم!».

وفي شريط آخر له يقول في ندوة سياسية، عقدها لمساعديه ومرؤوسيه في مطلع العام 1989، مبرراً قتله عشرات الألوف من أبناء كردستان، في عمليات الإبادة الجماعية (الأنفالات): «ماذا كان عليّ أن أفعل بهذه الأعداد الضخمة منهم؟ لقد قمت بتوزيعهم على مختلف المحافظات، وكان عليّ أن أرسل الجرافات إلى هنا وهناك»، [يقصد المقابر الجماعية].

وسيطول بنا الحديث كثيراً لو حاولنا الاستشهاد بآلاف الأمثلة الدامغة على هذه الجرائم الهمجية المروّعة، والموثقة بالصوت والصورة، لكننا سنكتفي بالقول إن المجرم علي حسن المجيد قد استحق من الشعب الكردي، وبجدارة، لقب "علي الكيماوي"، وإن عشرات المقابر الجماعية، التي اكتشفت بعد سقوط النظام العراقي في التاسع من نيسان (ابريل) 2003، خير دليل قطعي على ما نقول.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com