كم هي ضعيفة، ومهلهلة، ومفككة هذه الشعوب، والبلدان، والأمم التي تنسفها قصيدة، ويوهن عزيمتها مقال إنترنتي، ويدكّهادكّا فيلم إباحي، ويدحرها رأي علماني وليبرالي؟ فما إن يُسمع صوت جديد، أو يُدلى برأي حديث حتى تنهال عليه دعوات التكفير، والتأثيم، والدعوة للاقتصاص وقطع الرأس. فكل هذا التقوقع والنكوص للوراء، واستحضار أنماط وأفكار موغلة في الانغلاق، وكل تلك الرغبة العارمة في الاستمرار في أطر فكرية، وموروثات ثقافية بائدة لم تُحدث، وللأسف، أية نقلة نوعية وحضارية في حياة الناس، وأصبحت سمة مميزة، وعلامة تجارية فارقة لهذه المجتمعات البائسة، بينما يحاول العالم يومياً ولوج آفاق جديدة ومتغيرة. ومن هنا نجد أن ثقافة المنع، والحجب، والصد، والمصادرة هي الثقافة الرائجة في هذه الأرجاء. فالعالم كله مثلاً، مشغول، ومنهمك في هذه الأيام بدراسة، ومراقبة، ومحاولة سد ثقب الأوزون الذي يتحكم بالطقس في العالم، وبالتالي بمصير، وحياة البشرية جمعاء، بينما الشغل الشاغل، والهم الماثل لآخرين هو التحكم، ومراقبة، وسد الثقوب السفلية للإنسان، ونذروا حياتهم كلها لفلسفة هذه الثقوب و"مفرزاتها" المتعددة التي لا يمكن ربطها، عملياً، سوى بالرغبات الغريزية، والحاجات الأساسية للكائنات الحية، ولا يمكن النظر إليها علمياً، سوى، كأعضاء حيوية تؤدي وظائف بيولوجية هامة كبقية الأعضاء الأخرى، وتساعد الإنسان على الحياة والبقاء.
وفي الحقيقة، ليس هناك من رابط ملموس وحسي بين كبت المشاعر، ومراقبة الغرائز، وتوجيه الأحاسيس والخلجات، وبلوغ القوة، وإحراز النصر والتفوق في مختلف ميادين الحياة. كما أن القمع، والزجر، وحيثما، وكيفما كانا، لم يجلبا سوى الضعف، والتقهقر والهوان. والمجتمعات التي تفرض حظراً، ومنعاً، وصداً على سلوك الإنسان الحر، تراها من أضعف الأمم والشعوب التي تقوضها حتى نسمة الهواء. والشعوب والأمم والحكومات التي تحترم الحرية بشكل عام، والحرية الفردية بشكل خاص، تتمتع بنوع من القوة والهيبة على الساحة الدولية أكثر بكثير من تلك الدول التي تراقب المشاعر، وتقمع الغرائز، وتحظر الأفكار.
فالثقافة الاجتماعية، والحرية الشخصية في الغرب "المنحل" و"الكافر"، والذي يصدر لنا الغذاء، والدواء واللقاحات وكل مستلزمات الحياة، تعتبر مثلاً الفن عموماً، والجنس، و"ملحقاته"، المختلفة بشكل خاص، متاحاً ومشرعناً قانوناً، وصناعة، وتجارة، وبزنساً، يقف جنباً إلى جنب، وبالتوازي مع صناعة الطائرات، وإطلاق الأقمار الصناعية، وتقنية الشرائح الإليكترونية المعقدة جداً، ولا تسمح له بفرض، ومراقبة أي أنماط سلوك معينة على الناس، أو تكفير فرد لأنه عبر عن سرائره، أو حاول أن يتمتع باي نوع من عمل فني أو أدبي خلاق. ولن نقف عند التقييم الأخلاقي لجزئية من هذا الأمر الشائك، والذي قد يكون لنا عليه الكثير من التحفظات من حيث استغلال الجنس البشري مثلاً لغايات دنيئة تسيء للإنسانية بشكل عام، لأن هذا موضوع بحث آخر مختلف تماماً. فبعض الدول، التي تسيّر دفة الاقتصاد العالمي، وتتحكم بإعلامه قاطبة، لم تضعف بذاك الشق "المنفلت" من الحياة، على الإطلاق، ولم ينحل مطلقاً، وما يزال من المنعة والقوة بحيث يخطب وده، ورضاه، عتاة الجنرالات والحكام الذين يعتاشون على ثقافة التوجيه، والقمع، والإرشاد. ولا تزال الأحزاب المحافظة، والالتزام بالمبادئ العامة للآداب والأخلاق تشكل نسقاً عاماً تتصف به الكثير من هذه المجتمعات التي يظن البعض جهلاً بأنها منحلة. وعلى العكس تماماً، فلم تفلح آلات الرقابة العمياء، والحمقاء متعددة الوجوه والأشكال، في أن تنتج مجتمعات إفلاطونية عصماء، أو تؤسس لحياة خالية من كل المنغصات الأخلاقية. كما لم يفرخ الفن الهادف والملتزم والجاد سوى أشباه المعقدين من أصحاب التكشيرات، والميول الغامضة، وأفلحت الثقافة الستالينية في نشوء جيل ناقم، وكاره، وحاقد على الشيوعية بشكل عام، وساعد بسقوطها الدراماتيكي، وتقويض دولتها البوليسية في ليلة، لا بدر فيها، ليلاء، بينما وقف العالم "المنحل" الآخر يراقب هذا الانهيار بمزيج من التشفي، والسخرية، وهز الرأس.
وفي اليوم الذي أطلقت فيه إسرائيل، مثلاً، قمراً صناعياً للتجسس على إيران والعربان، وتقوم من الفضاء بتوجيه صواريخها الشيطانية القاتلة لاصطياد الناشطين والوطنيين الفلسطينيين، أطلق وزير الثقافة الفلسطيني وعبر تصريحات نارية مدهشة، من خلال جريدة الغارديان البريطانية، بث فيها رؤاه الطالبانية لمجتمع الغد الفلسطيني الذي سيحصنه، عبر سلسلة إجراءات يعتقد أنها فعالة ضد أغنية لمطربة، أو صورة قد تدمره وتنسفه، وكيف سيتصدى لهذا الأمر الخطير، ونسي عامداً متعمداً، كيف سيتصدى لصواريخ وأقمار إسرائيل التي تحصد أرواح مواطنيه ونشطائه الباسلين الذين يتصدون بصدور عارية لآلة الحرب القاتلة المنفلتة من أي عقال. وبالمناسبة، لم يقف"الانحلال الخلقي" المزعوم لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي من إلحاق الهزائم النكراء الواحدة تلو الأخرى، بجيوش العربان وجنرالاتهم وأجهزتهم القمعية على السواء، والتي حصرت مهامها الوطنية الجليلة، بمراقبة "الثقوب الكثيرة" في جسم الإنسان، وليلاً نهاراً فقط. وفي نفس اليوم المبارك هذا، سيجتمع برلمان عربي في جلسة صاخبة وغاضبة، لمناقشة تداعيات حفلة موسيقية "ماجنة"، لمطربة عربية متألقة هيفاء، ولها شعبية أكثر من كل عرفاء العربان، ونظراً لما لذلك من أثربالغ وخطير على مستقبل هذا الوطن والأجيال. فأي وطن، ومستقبل، وأجيال تتحكم بمصيرها، وتتلاعب بأقدارها حفلة غنائية؟
قد يفهم بعض "صغار القوم"، وقصار النظر، وكالعادة، من هذا على أنه دعوة للفجور والانحلال، والعياذ بالله، وهو ما لا يتجرأ عليه أي إنسان ومهما بلغ من الشذوذ والانحراف ولا سمح الله. إلا أن ذلك مرتبط إلى حد كبير بقضية الحريات العامة بشكل عام، والنظرة لهذا الإنسان. إنها قضية مبدأ، ونهج، وفكر، وعقل، مازالوا جميعاً في كهوف الزمان، بينما يحلق بقية خلق الله في أعالي المجرات، ويحصدون المعجزات.
كفى هذه الأمم تشاطراً، وتذاكياً، وتجارب فاشلة، فهي ليست حقلاً ومختبراً، ولم تعد تحتمل، أيضاً، أي نوع من التجارب والمغامرات، وتنحصر معظم مشاكلها المزمنة والقاتلة في قضايا الحريات العامة، وحقوق الإنسان، وتسلط الجهلة والأدعياء على العقول، والتحكم بمصائرالناس . ولقد بلغت بذلك مبلغا مؤسفاُ، ومحطاً للشفقة، ولا تحسد عليه على أية حال.