أخطر ما في الاستبداد، هو ذاك المظهر المخادع الذي يوحي بالطمأنينة والسلام، لكنه سرعان ما ينزلق نحو هاوية سحيقة ومرعبة من الفوضى والفلتان، عند أول اختبار حقيقي، أو طارئ سياسي غير محسوب. وقد تكررت هذه التراجيديا السياسية في أكثر من مكان في العالم، كان يخيّم فوقه هذا الظل الثقيل. فكل تلك الصورة الفولاذية الأمنية المرعبة للنظام العراقي النافق، مثلاً، لم تكن في الواقع سوى فقاعة من صابون، وهيكل من التنك، والكرتون، والورق. وما لفت النظر بالضبط، بعد أن انهارت، وبفعل عامل خارجي، منظومة الاستبداد الرهيبة، وشبكاتها المتعددة، التي نسجها من حوله نظام صدام حسين، لتعطيه ذاك الشعور الآني، والزائف بالأمن، هو ذاك التداعي، والذوبان السريع والمذهل لإخطبوط أجهزة النظام الأمني المتعددة. فالمنظومة الاستبدادية، عادة، ولكي تستمر وتقوى، وإن كانت تُختزل في فرد، أو طغمة، أو فريق، فإنها تعمد على بسط سلطانها، وإرساء امتداداتها العنكبوتية المتعددة الأشكال داخل الجسم المجتمعي، كي تدعمها، وتساندها، وتشد من إزرها عبر شبكة مصالح معقدة ومتراصة، ونفعية متبادلة، تجعل كل من هو داخل هذه الشبكة، محوراً مفصلياً، ومرتبطاً وجودياً، ومصيرياً بها، وبالتالي معنياً مباشرة بالمحافظة عليها وضمان ديمومتها قدر الإمكان، وبالنواجذ والأسنان. ومع ذلك لم يفلح هذا الغلو في الطغيان، وهذا البناء، والهيكلية الاستبدادية، وكل تلك الإجراءات في حماية الاستبداد من التداعي والتلاشي، وعادة ما كان يسقط بسرعة لا يتوقعها أكثر المتفائلين عند ارتطامه بأي بالون اختبار.
وبالمقابل، هنا، ولكي يحصل الاستبداد على ذاك الشعور الزائف، فيعمد إلى تجريد قوى المجتمع الأخرى المختلفة من كافة أدوات التعبير، وحرية الحركة، وسلبها مجمل حقوقها الأساسية، وجعلها تركض لاهثة فقط، لإشباع حاجاتها الإنسانية البسيطة، نظراً لما لذلك من تأثير سلبي كبير على الطاقة الإبداعية للعقل البشري، المحرك الأساسي والكبير لأي عملية تغيير. ومن هنا تعمد تلك الإجراءات الرادعة على شل فاعلية الحراك المجتمعي بشكل كبير، لكي لا يحدث أي نوع من ردود أفعال تعيق العمل، وتعطله في الشبكة الآنفة الذكر. فتتم مراقبة وحصار كل نشاط وحراك سياسي وقمعه في مهده، ونشر ثقافة بديلة لا تعكس بشكل عام الصورة الحقيقية على الأرض، والواقع، عبر تبني خطاب، وشعارات فضفاضة وكبيرة هائمة وغائمة مستحيلة التحقيق. وبسبب من ضعفها العام، تصاب أنظمة الاستبداد عادة برهاب من نوع خاص، ومرض وسواس خناس، وتوجس كبير من قوى التغيير، ومهما كانت ضعيفة ومشتتة، ويتجلى ذلك بعدم التسامح، وبشراسة الإجراءات، وردات الفعل العنيفة التي تتخذها حيال أي حراك فردي، أو مجتمعي.
وأول ما يحاول الاستبداد فعله عمليا هو فصم عرى النسيج الاجتماعي، وتفكيك المجتمع، وعزل مكوناته بعضها عن بعض، كي لا يتبلور أي ناظم معرفي، وقيمي سياسي، أو تنظيمي عام، يمكن أن تلتف حوله أي من تلك القوى المهمّشة، والمعنية، بشكل مباشر، بعملية التغيير. فإلغاء الحياة السياسية الصحية(برلمان منتخب، هيئات دستورية، قضاء مستقل، أحزاب سياسية، صحافة حرة، انتخابات، نقابات، قوى المجتمع المدني المختلفة......إلخ) هي من أولى المهام التي تعمل منظومة الاستبداد على تحقيقها، نظراً لتعارضها الكلي مع جوهر النظام الاستبدادي الذي لا يقبل أي شكل من النقد، والتفاوض، والحوار. كما أن محاولة إشغال الرأي العام بقضايا ثانوية، وإلهائها عبر نشر سلسلة من التصورات والتهويمات، من خلال وكلائه الاستراتيجيين المفوضين، ترمي بالدرجة الأولى، إلى زرع عامل التخويف والترهيب في أوساط الجميع، جرّاء أي تطور محتمل قد يهدف إلى تغيير بنية الاستبداد، بفعل تطور عامل داخلي، أو عبر حبك عملية تآمر خارجي. وبذا يصبح مستقبل الوطن هو من مستقبل الاستبداد، والعكس هو الصحيح طبعاً، في هذه الحال.
ولذا قد يتبلور هنا، وبفعل طول أمد الاستبداد، ويُصار إلى تنامي ولاءات، وتيارات قد لا تكون في معظمها وطنية التوجه بل تفتيتية، تقسيمية، عشائرية، قبلية وطائفية في معظم الأحيان. ويستدل الآخذون بهذا الرأي على المقولة الشهيرة التي أطلقها المجاهد المهيب الركن بأننا سنسلمكم العراق هشيماً، ورماداً يصفر فيه البوم والخراب. وفي الحقيقة، قد يكون هناك شيء من الصحة في هذا، نظراً لما يتركه الاستبداد من فراغ سياسي كبير، بعد أية عملية تغيير ويصعب سده بالسرعة المطلوبة. فالغياب الطويل والقسري للبنية التحتية الديمقراطية التي تكفل عادة الانتقال السلس للسلطات، وانعدام وجودها الكلي، سيؤدي بالضرورة، وعلى مبدأ الأواني المستطرقة، وسد الفراغ، إلى مبادرة قوى فوضوية شتى، وغير منظمة أحياناً، وذات أهداف خاصة أحياناً، وتطلعات متباينة، لملء هذا الفجوة السياسية التي تصبح مسرحاً لشتى أنواع التناقضات، والصراعات، والتجاذبات، والاستقطابات المحلية، والإقليمية، والدولية، وملتقى، أولاً، وأخيراً، لكل الخاسرين من عملية التغيير، ولكل أولئك الطامحين والحالمين، بلعب دور جديد على الساح، أو حتى أولئك الصائدين في المياه العكراء التي يحدثها جيشان التغيير.
ولحين إيجاد بنية تحتية ديمقراطية معقولة، تأخذ زمام المبادرة، وتكون قادرة على سد نسبي للفراغ الكبير الذي يخلفه عصر الاستبداد، ستكون الفوضى غالباً، في هذه الحالة، هي المرشح الأبرز لتكون اللاعب البديل والمؤقت على الساحة، بكل ما لذلك من مخاطر تقسيم، وتفتيت، وإضعاف قد تصيب البناء الوطني. ولدرء احتمالات مثل هذه المخاطر المنطقية، يتوجب حالاً، الشروع في إعداد بديل وطني موضوعي شامل ذي تمثيل عام، يتولى مهام قيادة المجتمع نحو بر الأمان ويجنبه عوامل الفرقة والانقسام، ويكون قادراً على استيعاب صدمة التغيير، ويقلل من مضاعفاتها قدر الإمكان، وذلك عبر تفعيل قوى المجتمع التي هجعت طويلاً في سبات "أمن الاستبداد" المرادف الموضوعي للقمع والإقصاء.
التغيير قادم وحتمي وهو من سنن الكون، ومن طبيعة الحياة. والقانون الطبيعي الذي يسيّر الكون من أزل السنين هو أن كل تراكم كمي، سيفضي حتماً إلى تغيير نوعي لا محالة، ومهما كان حجم القوة، وسطوة الاستبداد. وليست كل تلك الواجهات الأمنية التي بنتها نظم الاستبداد التقليدية من حولها، في روسيا الشيوعية، وألمانيا الشرقية، ورومانيا، والعراق، سوى قلاع من رمل، وطين، لم تصمد ثوان معدودات أمام أولى أمواج التغيير الخفيفة.
هذا، ينكر البعض أحياناً، وبمكابرة مبهمة، في النظم ذات الطبيعة المشابهة، مصطلح المصالحة الوطنية، وضرورة تطبيقاته العملية، وتفعيلها هنا وهناك، من منطلق أن لا وجود لأزمة وحدة وطنية، أو أية مخاطر تعاني منها البلدان التي تخضع للاستبداد، وبأن ذلك هو فقط من نسيج خيال المغرضين، والمتآمرين. والسؤال الذي يتبادر فوراً للذهن هنا، ماذا تعني كل تلك الحملات المسعورة، من المطاردة، والاعتقالات المستمرة للنشطاء، والكتاب؟ ولمن توجّه كل تلك القوانين التعسفية وإجراءاتها الكيدية الظالمة؟ وكيف يُفسر هذا الكم الهائل من حالة الشك، والريبة، والاستعداء، و"الاستعلاء"، ورفض المبادرات، والاستئثار بالثروة، والجاه، والسلطات؟ وماذا تفعل فعلاً في الاغتراب كل تلك الأفواج العامرة من المهجّرين والمنفيين؟ هل هم هناك بمحض إرادتهم، أم لمجرد المتعة، والسياحة، والاصطياف مثلاً؟
التغيير السلمي، المدروس، والهادئ، المستوفي لكافة شروطه الموضوعية هو المطلوب، وإلا فالفوضى، بالمطلق، هي النهاية الحتمية لعصر الاستبداد المقيت، ما لم يصار إلى تفادي ذلك عبر إحياء جديد لقوى المجتمع المدني، ومبادرات إنعاش سياسية لمجمل مكونات المجتمع ومهما تناهت في الصغر، ودعوتها من جديد للحياة. وحين ترفع القبضة الأمنية بدون ترتيب وميعاد مسبق ستطفو إلى السطح كل التناقضات، والمكبوتات، والمحظورات التي ابعدتها، وكتمتها مطولاً أجهزة الاستبداد. والديمقراطية وحدها، وعودة المجتمع للحياة السياسية، وعودة الأنظمة للمجتمعات، والمصالحة الوطنية، والعفو العام، هي الضمان، والأمان، والحل الأمثل للجميع. وأما استسهال الركون على النظام الأمني القديم، فسيعني شيئاً واحداً، وهو التكرار الممل، والمريع، لتلك التجارب القاسية، والفاشلة، والتي صارت جميعها في حكم الزمن والتاريخ.